افتتاحيات الجريدة

التهديدات التركية بالهجوم على جنوب كردستان وزيارة أردوغان الأخيرة إلى بغداد وهولير

-1-

   منذ مدة طويلة تهدد تركيا بشن هجوم عسكري واسع في إقليم كردستان العراق، وعلى إقليم شمال وشرق سوريا، وهدف الهجوم المعلن هو عزل حزب العمال الكردستاني، بل والقضاء عليه، وفي سبيل ذلك تمت عدة لقاءات وزيارات بين ممثلين عن الحكومتين التركية والعراقية كانت آخرها زيارة أردوغان إلى كل من بغداد وهولير، والتي أسفرت عن توقيع /26/ اتفاقية ومذكرة تفاهم بين الطرفين، والجدير بالذكر أن تركيا كانت قد أعدت اتفاقية أمنية، ولكن لم يتم الاتفاق والتوقيع عليها.

   أرادت تركيا إغراء الحكومة العراقية بإرسال حصة العراق وفق القوانين والأعراف الدولية من مياه نهري دجلة والفرات، وكذلك إنشاء طريق باسم طريق التنمية تمتد من ميناء الفاو العراقي، وتمر عبر كردستان والتي يسيطر حزب العمال الكردستاني على أجزاء منها، وتصل عبر الأراضي التركية إلى سواحل البحر المتوسط القريبة من الموانئ الأوروبية، ولا يخفى على أحد ما لهاتين المسألتين من أهمية اقتصادية لكلتا الدولتين، ولتحقيق الأهداف التركية فقد حاولت تركيا جر الحكومة العراقية بما في ذلك ميليشيات الحشد الشعبي وكذلك حكومة إقليم كردستان العراق إلى عمليتها العسكرية، ولازالت التهديدات التركية مستمرة.

   بالرغم من أن الحكومة العراقية الحالية تعمل منذ فترة على إضعاف حكومة إقليم كردستان، وتحديداً إضعاف الحزب الديمقراطي الكردستاني، فإنها مع ذلك ليست حرة التصرف بقبول العروض التركية، إذ لا يخفى على أحد تبعيتها لإيران، بل أنها لا تستطيع الإقدام على هكذا أمر إذا لم تكن هناك موافقة إيرانية، ومثل هذا الكلام ينطبق أيضاً على جماعات الحشد الشعبي، ولهذا اكتفت الحكومة العراقية بإعلان حزب العمال الكردستاني حزباً محظوراً في العراق وليس إرهابياً، وامتنعت عن التوقيع على الاتفاقية الأمنية مع تركيا.

   من جهتها فإن إيران وإن كانت منزعجة من مواقف حكومة إقليم كردستان، وتحديداً من مواقف الحزب الديمقراطي الكردستاني، فإنها لا ترى مصلحة لها في المخطط التركي، بل على العكس من ذلك فإنه لو نفذ هذا المخطط ونجح فإن الخاسر الأكبر ستكون إيران التي تسيطر الآن على كامل العراق، ونجاح المخطط التركي سيؤدي مشاركة تركيا (السنية والعضو في حلف الناتو وذات المطامع الكبيرة في العراق) لإيران في السيطرة على العراق، وبالتالي فإن إيران ترى أن إفشال المخطط التركي هو مصلحة إيرانية.

   للجانب الكردي في إقليم كردستان، وفي عموم كردستان الدور الأهم في إفشال المخطط التركي، فقد أعلن الاتحاد الوطني الكردستاني عن رفضه الشديد ليس فقط لأية اتفاقية أمنية بين الحكومتين العراقية والتركية، وإنما لعموم التهديدات التركية بالعدوان على أراضي جنوب كردستان وعلى إقليم شمال وشرق سوريا، وانتهجت أحزاب كردية أخرى نفس الموقف. من جانبه أعلن وزير الداخلية في حكومة إقليم كردستان والقيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني السيد ريبر أحمد بأن حزب العمال الكردستاني ليس إرهابياً، وأن هناك خلافات بينه وبين الحكومة التركية، وبالرغم من العلاقات الجيدة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وتركيا فإنه من المستبعد أن يوافق الحزب على مثل هذا الهجوم لاعتبارات عديدة منها أن هذا الهجوم سيؤدي إلى تعريض كامل إقليم جنوب كردستان وبما في ذلك حكومة الإقليم والحكم الفيدرالي وكل منجزات الشعب الكردي لمخاطر شديدة بما في ذلك القضاء عليها، ولعل زيارة رئيس إقليم كردستان السيد نيجيرفان بارزاني الأخيرة إلى إيران تأتي في هذا السياق، وفي نفس الوقت، وفي ظل التصعيد والتوتر الشديد الحالي في العلاقات الدولية الذي يشهده العالم بعامة والشرق الأوسط بخاصة وفي ظل الحرب في أوكرانيا وغزة فإن المجتمع الدولي لا يرغب في حروب أخرى، بل أنه يعمل من أجل تجنب توسيعها بما في ذلك الهجوم التركي الذي تعد له أنقرة لما لذلك من مخاطر على عموم المنطقة، إضافة للموقف العربي الذي لايزال مشغولاً ومحرجاً بنتائج الحرب في غزة، ومخاطرها التي تؤثر بشدة على أوضاع كل الدول العربية، ولذلك فإنها لن تتقبل هذا الهجوم التركي، خاصة وأن تركيا تعمل الآن على تحسين علاقاتها العربية.

-2-

   لقد خرج أردوغان وحزبه من الانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا جريحين بتحول حزبه مع حلفائه ولأول مرة منذ /20/ عاماً إلى المرتبة الثانية، ونجاح المعارضة بصعود حزب الشعب الجمهوري إلى المرتبة الأولى، والنجاح الهام الذي حققه حزب الشعوب للمساواة والديمقراطية بفوزه في معظم المناطق الكردية بالرغم من حالات التزوير في الانتخابات، وخسارة أردوغان المدوية لبلديات المدن الكبيرة ولاسيما بلديات استنبول وأنقرة وإزمير وغيرها، كما أصبحت عزلة تركيا الدولية أكبر، ويتراجع اقتصادها، وتفقد الليرة التركية الكثير من قيمتها بشكل متسارع ما يؤدي إلى تداعيات كثيرة منها تدهور الوضع المعيشي في تركيا، وما يترتب على ذلك من مضاعفات يتناول استقرارها الداخلي.

   كان أردوغان يعلق أهمية كبيرة على اجتماعه الذي كان مقرراً مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، غير أن إعلان بايدن بأنه لن يستقبل أردوغان في البيت الأبيض كان له أثر الصاعقة عليه، فقرر تأجيل زيارته، وربما إلغاءها، ولعل هذا يعتبر دليلاً على فقدان أردوغان وحكومته لمكانتها الدولية، خاصة أن حرب غزة أكدت عدة حقائق بهذا الشأن، إذ بالرغم من احتضان تركيا أردوغان لحركة حماس، وموقف أردوغان تحديداً الذي كان يعتبر نفسه راعي هذه الحركة وأمثالها مثل الجهاد الإسلامي، ودعايته الواسعة بأن تركيا تقف إلى جانب الحق الفلسطيني، فقد ظهر الموقف التركي ضعيفاً ومهلهلاً، بل ومراوغاً، وعملياً فقد استبعدت تركيا عن أي دور هام في الحراك السياسي والعسكري الدولي المتعلق بالحرب في غزة، بل أن هذه الحرب قد كشفت من جهة أخرى مدى نفاق أردوغان وحكومته الذي كان يعلن من جهة أن حماس ليست حركة إرهابية، بل حركة تحرر وطني، وأن نتنياهو هو الإرهابي، غير أنه من جهة أخرى حافظ على علاقات تركيا التجارية مع إسرائيل وأمدها ولايزال يمدها بما تحتاج من سلع، وبكلمة مختصرة أظهرت هذه الحرب مدى فقدان تركيا لمكانتها في السياسة الدولية، حيث سبقتها دول مثل إيران وقطر وحتى جنوب أفريقيا في التعامل مع نتائج حرب غزة.

   لكل ذلك فإن أردوغان وحزبه بحاجة إلى مخرج ما يساعده على استعادة ما فقده شخصاً وحكومة ودولة، وقد يعتقد أردوغان بأن هذه العملية العسكرية التي يدعو إليها في إقليم كردستان العراق ضد حزب العمال الكردستاني قد تساعده على استعادة جزء مما فقده، ولهذا فإنه قد يقدم على حماقة، ولهذا لا يمكن الاعتقاد بأنه قد تخلى نهائياً عن مثل هذا الهجوم للأسباب المذكورة أعلاه، ولهذا أيضاً ينبغي عدم إغفال هذا الأمر والاستعداد الكامل على كافة الجبهات العسكرية والسياسية وغيرها.

-3-

   تشن تركيا حرباً إجرامية واسعة ضد الشعب الكردي منذ عام 1984، واستخدمت فيها كل الأسلحة الفتاكة بما في ذلك السلاح الكيميائي إضافة إلى جميع أنواع الحروب الخاصة، واستخدمت أيضاً كل طاقاتها الاقتصادية والسياسية وعلاقاتها الدولية بما في ذلك وجودها كعضو في حلف الناتو، غير أنها لم تستطع القضاء على حزب العمال الكردستاني الذي يتعاظم دوره أكثر، وأصبحت دولة الاحتلال التركي والعالم كله على قناعة بأن الحل العسكري قد فشل، وأن الحل الحقيقي هو الحل السياسي والجلوس على طاولة المفاوضات والحوار الداخلي.

   أردوغان تراجع في الفترة الأخيرة عن العديد من سياساته، تراجع عن مواقفه تجاه مصر والسعودية ودول الخليج الأخرى، وقد يقتنع أردوغان نفسه بحقيقة أن الحل العسكري لن يقود إلى أية نتيجة سوى المزيد من سفك الدماء وإضعاف تركيا، وأنه لا بد من العودة إلى الحل السياسي وطاولة المفاوضات والحوار الداخلي على نحو مشابه لتجربة عام 2013، ولكي تكون هذه العودة ممكنة ولحفظ ماء وجهه فإنه لا بد لأردوغان من إقناع القوميين الأتراك المتطرفين بذلك، وقد تكون هناك حاجة من سيناريو خاص بذلك، ومن الممكن أن يكون هذا السيناريو هو الإقدام على عملية عسكرية محدودة في الصيف القادم ضد قواعد حزب العمال الكردستاني أولاً، ثم الإعلان عن العودة إلى طريق الحل السياسي باعتباره الحل الحقيقي والأنجع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى