عرض علني للتراجيديا السورية
مع تواصل الأزمة السورية، وعدم الوصول الى ملامح الحل السياسي، وخوض معارك في الشوارع، والقتل على الهوية، ومذهبية وطائفية كل تلك المعارك، فضلاً عن دخول مئات الفصائل المسلحة المأجورة والمرتزقة سواء سوريين أو غير سوريين، وتدخل الدول الإقليمية على خط الأزمة وتعقيدها، ما زال أمام السوريين التفكير جدياً في التوصل الى خارطة طريق بعيداً عن أجندات الخارج، وأولها فك ارتباط كل الجماعات الداخلية من الارتباطات الخارجية، لأن جدار الخوف تكسر أمام النظام ويجب أن يتكسر ذلك الخوف حيال كل ما هو خارجي أيضاً.
الارتكان على الحل الداخلي هو ما تبقى من حلول، بعد فشل الحلول الخارجية، وهنالك مشاريع سياسية مقدمة من قبل النظام وهي هزيلة، ومقدمة من قبل الكرد وهي مقبولة في الوقت الراهن في توسيع الإدارات المحلية، كما قبل بها النظام سابقاً، ولكن ارتهان حكومة دمشق أيضاً على العامل الخارجي جعل من مقارباته ضرباً من اللاحل، خاصة وأن دمشق بعمومها مرتهنة لموسكو التي لا تستطيع حل مشاكلها، خاصة وأن أمريكا لا تمانع أي مقاربة بين الكرد ونظام الأسد، لأنها تعي جيداً أن الحل يكمن بتقارب الاثنين، وأن الحل الداخلي سيتوافق مع رضا أمريكا ووجودها الطويل في سوريا كأمر واقع لا تستطيع حكومة دشمق رفضه أو ممانعته، بعد الضربات الإسرائيلية المكثفة وشبه اليومية على مقرات الأسلحة السورية في منطقتي دمشق وحلب.
الأزمة السورية تحولت الى حالة مستعصية، مما جعل من حكومة دمشق تكون في حالة محتارة من أمرها، فهي دولياً قائمة، وعلى أرض الواقع هشة وآيلة للسقوط إذا استمرت على هذه العقلية المتزمتة، فضلاً عن الضغوطات الخارجية والداخلية خاصة الاقتصادية إلى أن أصبحت أزمة معيشية يومية وعبء مضاعف على كاهل المواطن السوري في مناطق سيطرة الأسد وجيشه، وتقويض نفوذه بات علنياً إقليمياً ودولياً.
في جميع الأحوال لا يبدو المزاج الرسمي السوري مواتياً لقبول الآخر المختلف، الذي قدم مشروعاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً متكاملاً، ولكن بقاءه دون مبادرات يجعله في مزاج أكثر ضعفاً، لأنه يعي قبل غيره أن تدخل تلك الدول هي التي جلعت من الأزمة أزمة مستمرة دون حلول.
لن تعود سوريا كما كانت بالأمس، صحيح أن فرص النظام في السيطرة على بعض الأوضاع الأمنية في مناطق سيطرته بفضل توافقات روسية تركية، إلا أن ذلك لا يعني أن انتصاراً للشعب السوري، الذي دفع فاتورة باهظة الثمن من تشريده وخراب دوره، وتغيير مناطق سكناه وهدر كل تلك الدماء، وسيادية حالات الفوضى بكل صنوفها، وتوج الفوضى أكثر بعد أن سيطرت هيئة تحرير الشام على مدينة إعزاز، وعلى عفرين الكردية المحتلة، فإن السيناريو التركي بات يعيد نفسه كثيراً في مقاطعة عفرين وما حولها، في إعادة انتشار للهيئة التي تتبع لأوامرها وما بين انتشار المرتزقة الذين كانوا متواجدين في عفرين، وذلك كخطوة اولى استباقية من جانب أنقرة للتقرب من حكومة دمشق، حيث أن المعارك كانت مكثفة بين الجيش النظامي السوري وبين هيئة تحرير الشام وذلك لتقويض نفوذها في “ادلب” ومن ثم بسط سيطرة النظام السوري عليها كاتفاق مبدئي بين الرئيس الروسي والتركي في لقائهما الأخير في سوتشي الروسية.
دخول هيئة تحرير الشام إلى عفرين بات نوعاً من تقديم البدائل بين روسيا وتركيا المتحكمتين في جغرافيات كبرى في سوريا، أي استبدال إرهابيين بالمرتزقة والعكس صحيح أيضاً، وأولى أهداف تركيا في سوريا تقويض النفوذ الكردي، وضرب جغرافيته، وإنهاء مشروعه السياسي، وكلما توترت المناطق الكردية كانت أنقرة في أبهى نصرها، ولكن ربما فإن ما تأمله أنقرة لن تحصل عليه رغم كل أنواع العداونية التي مارستها حيال الكرد، وما تقديم هذا السيناريو الهزيل إلا نوع من سد الطريق أمام اللاجئين الكرد المتواجدين في مخيمات “الشهباء” والتي تظل أعينهم على مأواهم الأصل.
في توصيف آخر، فإن ما يحدث على أرض عفرين بين فصائل مترابطة ايديولوجياً وعقائدياُ وتتقاطع مصالحها مع مصالح تركيا، فإنها الفوضى ذاتها الناتجة من التنافس على النفوذ بين عشرات الفصائل في شمال سوريا، كما حدث في مناطق “الباب، جرابلس، سريكانيه” الخاضعة لسيطرة تركيا، وما يتوضح أكثر فإن تركيا توزع الفصائل حسب خطورتها هذه المرة، لتضع كامل ثقلها على تعزيز احتلالها لعفرين.
رغم أن منظمة العفو الدولية أتهمت مراراً وتكراراً الفصائل المسلحة التي تدعمها أنقرة بارتكاب “جرائم حرب” في عدة مناطق في سوريا إلا أن القتل والإجرام والانتهاكات التي تحدث يومياً على مرآى ومسمع العالم في المناطق الكردية السورية أو العربية السورية باتت ضرباً من تعقيد الأزمة وتحييدها عن الحل السياسي أو إيجاد خارطة طريق للحل، إلا أن مصالح أنقرة وموسكو تتقاطع دائماً على التعقيد طالما أن النفوذ الأمريكي يتوسع في شمال وشرق سوريا والنفوذ الكردي يتوسع معه، رغم كل تلك الهجمات السرية والعلنية التركية على المناطق الكردية.
فتح الله حسيني