ثقافة ومجتمع

الأدب الحكائي.. من الشفاهية إلى الكتابية بين التنميط وحداثة السرد.. (“ميراث الجدات” نموذجاً)

   يُعدُّ التراثُ الحكائيُّ الشّعبيُّ أدباً يمتلكُ ميزاتٍ عدةٍ، فهو حاملُ اللّغة، وجسراً للعبور من الماضي بلغته، وعاداته وقيمه وأدواته، وسبل عيشه، وطرق تفكير الإنسان آنذاك كنتاج تجربة، وخبرةٍ عملية لتشكيل التمازج المعرفي للحضارة، نحو الحاضر أو المستقبل.

   الكاتبة السورية / مها ريّا / تحاولُ أن تسجل تفاعلاً بين التّراث الشفوي والمدوّن بلغةٍ متميزة عبر استعارة الشكل القصصي الشفاهي بمنحه استهلالاً روائياً عبر تقنياتٍ كتابيةٍ مستلهمةٍ من الأدب الشعبي إذ يغدو الاتجاهُ الحكائيُ _بتفاصيله على السامع أو القارئ _ جدولاً دافقاً ثرياً ﻻ يكاد ينضبُ، إذ تجتازُ مسالك السّرد والحوار دونما تقعّر أو حرص لغوي حرفي بمكامن وقيود النّص الحكائي لتغدو الحكاية ينبوعاً متجدداً لا مستنقعاً يعجُ بطحالب اللغة، فتساهم في منح النص إضاءة وحيوية محاولة رفع مستوى الذّائقة الفنية والجمالية، خلال مستوى أعمق لبلورة الرّؤية الوجودية للفكر والمنطق الإنساني، وسلوكياته المجتمعية لتعريف الأجيال الجديدة على نماذجَ من الحكاياتِ بنكهةِ راقيةٍ كأدبٍ حي دافق السرد يكمنُ في عمقهِ فرح الإنسان وحزنه، جنونه وحكمته، يأسه وأمله، شقاؤه وسعادته منتجاً المغامرة الأولى للعقل حسب تعبير فراس السواح، منحتهُ الكاتبةُ أسلوباً تشويقياً، شحذت قريحتهُ في اتجاه آخر، فقدمت صياغة جديدة لمفهوم الأدب التّراثي بكل ما يحتويه من مزايا روحية ومادية وإبداعية، بحيوية لغوية أنيقة ومرنة، تروي من جديد قصصاً منتشرةً في أوساط مجتمعاتٍ متقاربةٍ تمتلكُ في حكمتها العميقة البسيطة نمطَ تربيةٍ، وبناءٍ قويمٍ للأجيالِ النّاشئةِ.

  في العادة يتم نشر الحكايات كما هي، كما تم تناقلها، أو كما روتها الجدات، لكن الحالة الروائية في هذا الكتاب تأتي مختلفة تماماً، فالكاتبة مها ريا تتناول القضية بطريقة مختلفة فتمنح الحكايا استهلالاً قصصياً بحيث تنتقل لرواية الحكاية بعد استهلال يتضمن الكثير من الجمالية الأدبية، ومزيداً من الإثارة، تخلق نوعاً من التآلف بين ما كان من حكاية قديمة وما نعيشه راهناً في حياتنا المعاصرة وبذلك تجعل من رواية الحكاية إضافة حقيقية كما أن ذاك الأمر يخلق الكثير من التحفيز لدى القارئ لمتابعة الحكاية نحو النهاية، ويمنحه فرصة أسقاط أو مقارنة واقعه اليومي مع الحكاية كحالة واقعية ومعاشة أيضاً يدرك قارئها ان اباؤه وأجداده ربما قد نالهم من متعة الاستماع إلى بعض من الحكايات في مكان ما، من زمن قد مضى..

   فما هي الحكاية الشعبية، ما مفهومها، ومدى تقاربها من التراث أو الفلكلور، وما مدى أهميتها..؟ وأسئلة أخرى ربما تكمن في أجوبتها بعض من ما نحاول أن نذهب إليه في مقاربتنا لتعريف التراث أو الحكاية التراثية بشكل خاص..

   فالحكاية الشعبية هي “حدوتة” أو أحدوثة تتسم بالخيال والغرابة في توارد أحداثها وصفات أشخاصها، وتم تناقلها مشافهة من جيل إلى جيل من الجدات للأحفاد، أو من الأجداد للأبناء، في إطار عملية تعليم أو تربية أو تسلية.

   وهو جنس أدبي قائم ومستمر له أصوله ومقوماته ومزاياه الفنية، فالحكاية تتحدث أو ترسم ثقافة البيئة وتعكس ذلك اجتماعياً عبر سرد توصيفي تمتلك لغة أدبية خاصة، وبالتالي هي ثقافة انتقالية يستوعبها فن القص الذي تراكمت أدواته الإنتاجية لسرده كشكل أدبي له نمطه الخاص وأسلوب روايته ولغته الخاصة الجارية على ألسنة شخصيات الحكايا تناقلها مشافهة من منطقة إلى أخرى الرعاة، وأضافوا إليها من خيالهم الشعبي الكثير، لكنها ألتزمت بتفاصيل الحكايات محافظة على تراتبية أحداثها، وسمات وصفات شخصياتها. فأغلب الحكايات التراثية تتحدث عن الماضي البعيد، حيث يضيع الزمن ويتماهى مع حالة السرد التي كانت ليالي الشتاء مرتعاً خصباً لروايتها حول مواقد النار، كما كانت فترة المواسم الزراعية الصيفية موسماً لرواية الحكايات، التي كانت تتحدث عن الحب والوفاء والغدر، والبطولة، والنزاهة، والصبر والفقر والغنى والشوق والحنين والمرض والموت، وانتظار المعجزات بأسلوب سردي ممتع عبر مزج الواقع بالخيال، واستخدام عناصر الطبيعة من أشجار وحيوانات في رسم ملامحها وحوارات شخصياتها، لذا نجد في كثير من الحكايا حيوانات تتحدث، وتتصرف بذكاء وتظهر او تختفي في مفاصل محددة من القصة كما في حكاية “المخادعون” وحكاية “العفو عند المقدرة” الواردتين في هذا الكتاب (ميراث الجدات).

   ونجد ايضاً شخصيات واقعية تمتلك صفات خاصة كالحكمة أو الحماقة، الشجاعة أو الجبن، كما يتبين ذلك في حكاية “الحظ والقداسة” وأيضاً في حكاية ” أبو فروة “في تفاعل مع الحدث وبنية القص، وأدى ذلك التداول والتفاعل بين الأدبين الشفوي والمدون إلى استعارة أشكال السرد الشعبي والاهتمام بتقنية السرد في خدمة كتابة الرواية الحديثة لاحقاً، ضمن الظروف الاقتصادية والاجتماعية المسيطرة على نمط المعيشة وذهنية التفكير. وتطورت حالة الروي أو القص لتتحول إلى محمول حامله فن الدراما من مسرح أو سينما، فقد تم استخدام التراث او الموروث الشعبي في بناء القصص والدراما التلفزيونية او السينمائية بوصفها حقيقة اجتماعية موضوعية كان لها الأثر في معرفة أبعاد الماضي وإفرازاته ورسوبياته في الحاضر واسقاطاته في روايات معاصرة أو يوميات مُعاشة، ويكمن المغزى أو الهدف من روايتها وسردها في منح الجيل الجديد المتعة والفائدة من خلاصة تجارب الحياة وما فرضه الواقع القاس من ظروف قاهرة، فنتجت منها العبرة والحكمة، وربما كانت هذه واحدة من اهم طرق نقل الفكر والمعرفة والثقافة والقيم الاخلاقية من جيل لأخر بما تمتلكه الحكاية الشعبية من وظيفة تربوية ذات أبعاد اخلاقية وسلوكية، خاصة في فهم التضاد الإنساني الوجودي بين “الشر” و”الخير” وغيرهما من التضادات الحياتية كالكرم والبخل و…. ،.

   ضمن جولة مستفيضة في عمق حكايات كتاب (ميراث الجدات) نجد ان أغلب القصص أو الحكايات انتهت إلى نهايات سعيدة، حيث انتصار الخير على الشر وانتصار الحكمة على الحماقة  باستثناء الحكاية الأخيرة من الكتاب والتي حملت عنوان “عواء الذئب” المستوحاة من التراث الكردي، أذ تنتهي نهاية تراجيدية درامية مأساوية مؤلمة، وهو قدر تاريخي، نتعاطف مع الأم المكلومة رغم “جريمتها” نتابعها في فرارها إلى الجبال هرباً من نفسها، ومن اهل قريتها، من الجنود، ومن الحكام، لتلوذ بالجبال، لتستكمل حياتها هناك في قعر الوديان وعلى قمم جبال طوروس، رغم توحش حيواناتها وقساوة الحياة وصعوبة عراك تلك الطبيعة الجبلية القاسية، لتتحول إلى ذئبة تمارس عويلها (عواءها) كلما سيطرت العتمة على المكان كصرخة ثأر من المجتمع ومن ظلم تاريخي عانته في عشقها وترملها لاحقاً، والنظرة الذكورية التي كانت تسترخص جسدها الجميل. في محاولة امتلاكها عنوة.. في نهاية الحكاية نجد ان العويل ما هو إلا إدانة واضحة للتسرع في التدبير والمعاناة الأزلية من وجع الندم…

للمقالة صلة…

   عبـدالـوهـاب بـيـرانـي*

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى