الشرق الأوسط والعالم بعد حرب غزة
-1-
لا شك أن الحرب الحالية في قطاع غزة لن تكون حدثاً عابراً تمر به منطقة الشرق الأوسط دون انعكاسات عميقة على جميع دول المنطقة، وعلى تطور الأحداث فيها، بل ستترك هذه الحرب آثارها بعمق، وقد تكون بداية مرحلة جديدة تختلف عن سابقتها في توجهاتها السياسية وعلاقاتها الاقتصادية والعسكرية، وذلك بسبب التداخل الدولي والإقليمي والمحلي في هذه الحرب، وتأثيراتها على جميع القضايا والصراعات التي كانت سائدة قبل الحرب دولياً وإقليمياً ومحلياً.
هناك الآن ثلاث ساحات صراع دولية رئيسية في العالم، هي ساحة الحرب في أوكرانيا وهي تجري في أوروبا مع ما تحمله من تداعيات خطيرة، وساحة تايوان بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وساحة الشرق الأوسط مع قضاياها الشائكة وبخاصة القضيتين الرئيسيتين، القضية الكردية والقضية الفلسطينية، وجميع هذه الساحات تشكل خطراً على السلام والأمن الدوليين، وإذا كان الغرب يعمل من أجل إطالة أمد الحرب في أوكرانيا وهزيمة روسيا فيها، فإن روسيا والصين وحلفاءهما في الشرق الأوسط وفي مقدمتها إيران تعمل من أجل أن يكون الصراع في الشرق الأوسط مكافئاً للصراع في أوكرانيا، ومن أجل هزيمة الغرب وإخراج القوات الأمريكية منها، وأما في ساحة تايوان فإن الوضع غير متفجر حتى الآن، وتحشد الولايات المتحدة وحلفاؤها قواتها الآن لتكون تايوان موقعاً متقدماً للولايات المتحدة ضد الصين والوقوف أمام طموحاتها، بينما تصر الصين على استعادة تايوان باعتبارها أرضاً صينية سلماً أو عن طريق الحرب، ومعلوم أنه قد تشكل تحالفات على مستوى العالم، التحالف الأول هو حلف الناتو أي الولايات المتحدة وأوروبا بالإضافة إلى اليابان واستراليا وكوريا الجنوبية، والثاني هو روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، ومعلوم أنه يقف مع كل حلف عدد من دول العالم.
في ضوء الوقائع المذكورة وما يجري على الأرض فإن التصعيد في السياسة الدولية يتعمق أكثر فأكثر، ويصبح سمة المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم، وفي ضوء هذا التصعيد فإنه من المتوقع أن يزداد التوتر في الشرق الأوسط، وأن يتعمق انقسام العالم، وهذا الانقسام العالمي سيؤدي إلى عدد من النتائج، ومن أهمها أن أية قضية في أي مكان من العالم لن يبقى حدثاً منفصلاً عن الصراع الدولي، وفي مقدمة هذه الأحداث في الشرق الأوسط القضية الكردية في أجزاء كردستان الأربعة والقضية الفلسطينية، وفي الأساس فإن القضية الكردية قد اكتسبت بعداً دولياً وخرجت من إطار المحلية التي كانت الدول الغاصبة لكردستان تصر على أنها مسائل داخلية، ولا يحق للمجتمع الدولي التدخل فيها باعتبارها تتعلق بسيادة تلك الدول.
-2-
في ضوء هذا الصراع الدولي، والتصعيد في العلاقات الدولية فإن أحد الانعكاسات الرئيسية للحرب في غزة سيكون في تعزيز الوجود الغربي في الشرق الأوسط باعتبارها من المناطق الأكثر سخونة، خاصة أن روسيا والصين وإيران بحاجة إلى جبهة مكافئة لجبهة أوكرانيا، والشرق الأوسط هي الجبهة المثالية لها، ولأن هذه المنطقة تعاني بالأساس من قضايا ومشاكل متراكمة، ولأن إيران وتركيا هما من دول المنطقة التي تعمل من أجل التمدد فيها وتملكان مشروعين للتوسع، وهو أمر معروف للجميع، ومن جهة أخرى فإن روسيا موجودة في سوريا، وكل ذلك يهدد المصالح الأمريكية والغربية عامة، وإذا كانت الولايات المتحدة موجودة بقوة في الخليج فإنها ستقوم بتعزيز وجودها في كل من العراق وسوريا (مناطق الإدارة الذاتية) لأنهما من جهة المكانان المثاليان للوقوف بوجه التمدد الإيراني والتركي، ومن جهة أخرى الوقوف في وجه مخاطر محور أستانا والتمدد الصيني في المنطقة، ولا شك أيضاً أن الإدارة الذاتية هي من ضمن الأهداف الرئيسية لمحور أستانا، ويتوقع العديد من المراقبين أن تقوم إيران وتركيا والنظام السوري بالضغط على هذه الإدارة سواء بالهجوم المباشر أو عن طريق خلق الفتن والاضطرابات كما حدث في مناطق شرق دير الزور، أو الضغط على المناطق الرخوة كما في حالتي منع دخول المواد الغذائية والطاقة والأدوية إلى منطقتي الشيخ مقصود والشهباء وهو ما يجري منذ فترة طويلة، أو تكثيف القصف بالمدفعية والمسيرات على مناطق الإدارة الذاتية.
في هذا الوقت بالذات أقرت الإدارة الذاتية عقدها الاجتماعي الجديد، ومهما يكن محتوى هذا العقد فإن الإدارة الذاتية قد أعلنت استمراريتها، وحددت مستقبل المنطقة التي تسيطر عليها بغض النظر عن وجود النظام، وهي بهذا العمل تسحب البساط من تحت أقدام النظام وإيران وتركيا ومرتزقتها، بل ومن تحت أقدام محور أستانا بكامله وتضعه أمام واقع محدد لحل الأزمة السورية بدعوتها لحوار السوريين بأنفسهم واعتباره المدخل الرئيسي لحل الأزمة السورية في الوقت الذي يقف فيه النظام ومرتزقته تركيا عاجزين عن أي حل للأزمة، إضافة إلى معاناتهما من أزمات خانقة، وهذا ما يؤكده المبعوث الدولي إلى سوريا السيد غير بيدرسون عندما يقول: “إن الصراع في سوريا يحتاج إلى إثارة عدد من القضايا بما في ذلك انسحاب القوات التركية، والنظر إلى الوجود الكردي في المنطقة والإنجازات الكبيرة والتضحيات التي قدموها للمجتمع الدولي، والحفاظ على مناطق عدة في سوريا تحت شعار الأخوة بينهم، وهناك حاجة إلى تبني نهج جديد من جانب المعارضة والحكومة السورية لحل الصراع”.
-3-
وفقاً لتطورات الأوضاع في الشرق الأوسط بدءاً من المشروع الإيراني الذي بموجبه تحتل إيران الآن أربع عواصم عربية، والمشروع التركي الذي تحتل بموجبه تركيا مناطق كردية من الشمال السوري ومساحة واسعة من أراضي إقليم كردستان العراق، وتتدخل في ليبيا وعدد آخر من الدول العربية، إضافة إلى الوجود العسكري الدولي في المنطقة، فإن الشرق الأوسط سيكون أمام أحداث وتطورات مهمة، وستحتل القضيتان الكردية والفلسطينية مقدمة تلك الأحداث والتطورات، ذلك لأن المنطقة لن تشهد الأمن والاستقرار ما لم يتم إيجاد حل لتلك القضيتين، فبالنسبة للقضية الفلسطينية إذا كان المتطرفون الإسرائيليون قد استطاعوا عبر توسيع الاستيطان وخلق المشاكل وعدم اعترافهم بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية عرقلة حل الدولتين وفق اتفاقية أوسلو، فإن الحرب الحالية ونتائجها ستخلق ظروفاً جديدة تجعل الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني يتقبل حل الدولتين على أساس قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، خاصة أن هذا الحل أصبح مقبولاً بشكل كبير من قبل المجتمع الدولي، ومن قبل الدول العربية، خاصة أن من مصلحة الدول العربية مجتمعة التوصل إلى هذا الحل، ولأنه بدون هذا الحل ستبقى المنطقة غير مستقرة تسودها الحروب والأزمات الدائمة، وإذا كانت هذه الحرب قد خلقت جواً أكبر من الكراهية بين الفلسطينيين والإسرائيليين أضيف إلى التراكمات السابقة فقد لا تنتج هذه الحرب حل الدولتين سريعاً وبشكل مباشر، ويحتاج الأمر إلى وقت موضوعي لأن عشرات الآلاف من الضحايا والجرحى والدماء الغزيرة التي سفكت لا يمكن تجاوزها بسرعة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تحتاج الدول العربية أيضاً إلى وقت تستطيع فيه ترتيب مواقفها، وكل ذلك سيؤدي إلى تطور مواقف المجتمع الدولي للضغط من أجل حل الدولتين.
-4-
يرتكز الشرق الأوسط على أربعة أقوام رئيسية هم العرب، الفرس، الترك، الكرد، وقد تم تقسيم وطن الكرد كردستان بين أربع دول هي تركيا والعراق وإيران وسوريا وهي تنكر وجود الكرد الذين يتعرضون إلى الإبادة الوجودية والثقافية، غير أن الشعب الكردي لم ولن يتقبل هذا الواقع، فخاض ولايزال عشرات الثورات والانتفاضات وقدم أنهار الدماء لنيل حقوقه المشروعة، وحرية وطنه كردستان، وإذا كان جنوب كردستان قد حقق بنضاله وتضحياته بعض حقوقه بالظفر بنظام فيدرالي، وإذا كان روجآفاي كردستان قد استعاد وجوده وبعض حقوقه القومية، فإن ثورة الشعب الكردي في شمال كردستان وشرقها مستمرة، لتشكل إحدى القضايا الرئيسية للشرق الأوسط التي تنتظر الحل باعتبارها قضية /70/ مليوناً من البشر يتعرضون للظلم والإبادة.
إن القضية الكردية لم تعد اليوم مسألة داخلية في نطاق الدول التي تقتسم كردستان، إذ بفضل النضال الحازم للشعب الكردي تجاوزت هذه القضية الأطر المحلية لتصبح إحدى قضايا الشرق الأوسط الرئيسية، وتجاوزت أيضاً البعد الإقليمي لتصبح قضية دولية رئيسية على طاولات العديد من الدول الكبرى تنتظر الحل العادل.
لقد هزت حرب غزة الحالية المنطقة والعالم، وأصبحت مسألة دولية وإقليمية ومحلية، وأثبتت بما لا يقبل الجدل أن الشرق الأوسط برمته يجلس على برميل من البارود، وأنه يجب إيجاد الحلول المناسبة لقضاياه، وفي مقدمة تلك القضايا القضية الكردية باعتبارها قضية رئيسية وساخنة لا يمكن القفز من فوقها، خاصة الدول التي تقتسم كردستان هي التي تقف وراء زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، وأنه من الضروري وضع حد لمشروعي إيران وتركيا التوسعيين ولما يسمى بالصراع السني – الشيعي اللذين هما بالأساس مسألة سياسية محضة، ومن الطبيعي أن يبادر الكرد أولاً إلى توفير العاملين الموضوعي والذاتي لانتصار قضيتهم، ذلك لأن قضية الحرية، وقضايا الشعوب والأوطان ليست منحة، ولا بد أن ينتقل الشعب الكردي إلى مرحلة أفضل وأكثر تقدماً في كفاحهم، أن يحققوا وحدتهم ويحلوا خلافاتهم البينية، أن يعززوا نضالهم على كافة الساحات المحلية والإقليمية والدولية.
في ظل الصراع الدولي الحالي على منطقة الشرق الأوسط، وفي ظل التوتر الحاصل اليوم في العلاقات الدولية، فإن كافة العوامل الموضوعية لإيجاد حل للقضية الكردية متوفرة، ويبقى أن يعي الكرد ويدركوا كيفية توفير العامل الذاتي الضروري، وكيفية تسخير سياساتهم وإمكانياتهم لذلك.