-1-
عندما أعلن عن اللقاء بين وزيري خارجيتي تركيا وسوريا في بروكسل، وما تلته من تصريحات من الجانبين حول وجود مشروع مصالحة بين النظام والمعارضة السورية، فقد بات واضحاً أن هناك انقلاب تركي أردوغاني آخر على حلفائه في المعارضة السورية، بعد أن باع حلب بما فيها من معارضة إلى النظام السوري، وباع مناطق أخرى مع معارضتها في مناطق أخرى في مقايضات أخرى، ذلك أن أردوغان بكل تاريخه معروف بمثل هذه الانقلابات الدراماتيكية، فقد انقلب على أربكان وعلى كولان وعبد الله غول وغيرهم مثل أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان، وإذ كان لهذا الانقلاب وقع الصاعقة على المعارضة السورية سواء في الائتلاف السوري وغيره، وعلى الفصائل المسلحة فقد كان رد الفعل الأولي هو خروج المعارضة في جميع المناطق المحتلة بمظاهرات احتجاجية واسعة ضد هذه الصفقة، معبرة عن رفضها لهذا الانقلاب، ومدركة تماماً خلل اعتمادها منذ البداية على تركيا في تحقيق أهدافها.
في قمة طهران التي كانت رداً على زيارة بايدن لإسرائيل والسعودية واجتماعه بعدد من القادة العرب في جدة أبلغ خامنئي أردوغان بعدم قبول إيران قيام تركيا باحتلال أية أراض سورية جديدة، وكذلك فعل الرئيس الروسي بوتين عندما أبلغ أردوغان بعدم قبول روسيا باحتلال أراض سورية جديدة، وبعبارة واضحة أبلغ الطرفان أردوغان بعدم قبولهما اجتياح مناطق روج آفاي كردستان – شمال وشرق سوريا، أي مناطق الإدارة الذاتية، وطبيعي أن أردوغان لم يحضر إلى طهران لكي يتبلغ مثل هذا الموقف، وإنما كانت هناك اتفاقات أخرى بين الأطراف الثلاثة لم تظهر حينها للعلن وأمام الإعلام، ومن تلك الاتفاقيات السماح لتركيا بقصف مناطق روج آفا – شمال وشرق سوريا سواء بالمدفعية أو بالطائرات المسيرة بهدف إحداث حالة من عدم الاستقرار في هذه المناطق وتوسيع دائرة الهجرة منها، وكذلك القيام بأعمال اغتيال بعض العناصر التي تشكل خطراً على أمنها بحسب ادعاءاتها، ومنها أيضاً القيام بإجراء مصالحة بين المعارضة السورية وبين النظام السوري، وكذلك التضييق على الوجود الأمريكي في روج آفاي كردستان خاصة وشمال وشرق سوريا عامة.
إن هذا الانقلاب الأردوغاني – مشروع المصالحة الإجبارية بين النظام السوري والمعارضة – ليس مشروعاً تركياً فقط، وإنما هو مشروع دولي تقوده روسيا بالاتفاق مع تركيا وإيران وله أهداف عديدة منها:
1- تفرغ هذه الدول من أجل ضرب وإضعاف أو القضاء على الإدارة الذاتية الديمقراطية وعلى قوات سوريا الديمقراطية، وبالتالي إعادة جميع الأراضي السورية إلى النظام وفق هدفي كل من روسيا وإيران والقضاء على المكتسبات التي حققها الشعب الكردي وفق الهدف التركي.
2- التضييق على الوجود الأمريكي في روج آفا – شمال وشرق سوريا، وبالتالي انسحابها من سوريا.
إن هذه المصالحة إلزامية بالنسبة للمعارضة السورية، ذلك أنها تعتمد بشكل مباشر وكلي على المساعدة التركية وحمايتها، وأنه يستحيل عليها الوقوف عملياً في وجه هذا المشروع، خاصة أن الفصائل المسلحة وقياداتها مرتبطة بالمشاريع التركية، وتعتمد عليها في جميع أعمالها العسكرية والاقتصادية والسياسية، وبعبارة واحدة أصبحت جزءاً من التوجهات التركية، وتستغل تركيا هذا الوضع بشكل كامل من أجل إجبار الجميع بقبول هذا المشروع والقبول بالسياسات التركية وتوجهاتها لأنها – أي تركيا – تعرف تماماً بأن المعارضة لن تتمكن من اتخاذ قرار مستقل.
-2-
يأتي هذا المشروع في ظل ظروف الوضع الدولي الجديد الناجم بدرجة رئيسية عن الحرب في أوكرانيا، هذه الحرب التي أدت إلى تقسيم العالم بين المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، وبين كل من روسيا والصين وحلفائهما مثل إيران وسوريا وغيرها، وبين هذين المعسكرين عدد من الدول التي تراعي ظروفها الوطنية الخاصة، ولم تنجر حتى الآن إلى اتخاذ مواقف نهائية، وفي ظل التصعيد في المواقف في أجواء يمكن أن يقال عنها أنها حرب عالمية ثالثة دون مواجهات مسلحة مباشرة.
كما يأتي هذا المشروع أيضاً في ظل ظروف تركيا الخاصة حيث يزداد وضعها الداخلي سوءاً في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية، وتراجع شعبية أردوغان وحزب العدالة والتنمية وزيادة قوة المعارضة خاصة أن تركيا أمام انتخابات رئاسية وبرلمانية في شهر حزيران القادم والتي تدل جميع المؤشرات على خسارة أردوغان وحزب العدالة والتنمية فيها إضافة إلى فشل جميع سياسات أردوغان وبخاصة في شرق المتوسط وليبيا وسياسته تجاه مصر والسعودية ومعظم الدول العربية، وكذلك عزلة تركيا المتزايدة ووقوف جميع دول الاتحاد الأوروبي ضد سياسة العدائية تجاه قبرص واليونان وتجاه محاولاته الاستحواذ على ثروات شرق المتوسط.
يرى أردوغان أن نجاحه في تحقيق المصالحة بين النظام والمعارضة وطبعاً على حساب المعارضة وعموم الشعب السوري، وحربه ضد الإدارة الذاتية الديمقراطية قد يساهم في رفع شعبيته في الانتخابات القادمة وينقذه من العديد من الملفات الجنائية وملفات الفساد وغيرها، هذا من جهة ومن جهة أخرى قد تقربه من الدول العربية الأخرى بعد سياساته العدائية تجاهها.
وإذا كانت تركيا إحدى دول حلف الناتو وتتمتع فيه بثقل مهم، فإن أردوغان على ما يبدو يقوم بتغيير في بوصلة تركيا من خلال تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين ودول الشرق الأخرى وبخاصة الدول العربية مع احتفاظها بعضوية الناتو شكلياً وهي الآن غير ملتزمة بعقوبات الناتو على روسيا.
-3-
إن الغرب لن يتخلى عن تركيا كدولة تحت أي ظرف هذا أولاً وثانياً لن يتخلى الغرب عن تركيا كدولة مهمة في حلف الناتو، لقد كانت تركيا على الدوام سداً منيعاً أمام توجه الاتحاد السوفياتي جنوباً ولعشرات السنين وذلك بسبب موقعها الجيوسياسي وكونها دولة كبيرة في المنطقة تؤثر بشكل واضح على كامل الإقليم سواء من ناحية إيران أو الدول الأخرى، ولكونها تشكل دملة في خاصرة روسيا من جهة علاقاتها مع الدول الناطقة بالتركية والتي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق وكذلك لعلاقاتها مع دول القوقاز، وبذلك فإنها تؤثر على الأمن في روسيا، ولكن الغرب غير راض عن سياسات أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وهو يريد الآن إجراء التغيير في القيادة التركية أي إسقاط أردوغان وحزب العدالة والتنمية عبر الانتخابات وهو ما صرح به الرئيس بايدن أثناء حملته الانتخابية.
روسيا من جانبها التقطت توجهات أردوغان وعملت وتعمل بكل قوة على جذبه نحو علاقات أفضل مع روسيا. إن روسيا من خلال علاقاتها الجيدة مع تركيا تضمن أمن وسلامة منطقة القوقاز وتحصل على تسهيلات كبيرة في الممرات المائية التركية، وتقلل من خطر تركيا كدولة في حلف الناتو على روسيا، إضافة إلى العلاقات الاقتصادية حيث يبلغ حجم التبادل التجاري عشرات المليارات من الدولارات.
لا شك أن المشروع الحالي، مشروع المصالحة بين النظام والمعارضة السورية ومحاولة ضرب الإدارة الذاتية والتضييق على القوات الأمريكية المتواجدة في شمال وشرق سوريا هو جزء من السياسة الدولية لروسيا وإيران وتركيا لأن الساحة السورية ليست فقط ساحة صراع بين السوريين أنفسهم، وإنما هي ساحة صراع إقليمي ودولي في آن واحد، وفي ظروف الحرب الأوكرانية والتصعيد الحاصل على جميع الصعد في جميع أنحاء العالم فإن كلا الطرفين الروسي والغربي لن يسمحا لبعضهما الظفر في كسب أية ساحة صراع في العالم ومن أهمها الساحة السورية، ولهذا السبب فإن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة والغرب عموماً لن يقبلوا بنجاح هذا المشروع وسيعملون على إفشاله.
-4-
مما تقدم تتضح بجلاء أهداف ومرامي هذا المشروع الذي يتضمن ليس فقط إنهاء المعارضة وإنما ضرب الإدارة الذاتية في الوقت نفسه، وإذا كانت هذه هي خلفية المشروع وأهدافه، أي ضرب الإدارة الذاتية وإنهائها وبسط سيطرة النظام على كامل الأراضي السورية بالرغم مما جرى خلال /12/ عاماً من القتل والنهب والسلب والإرهاب والدمار فما هو العمل من أجل إفشال هذا المشروع؟ نعتقد أن هذا المشروع لن يكون ممكناً تنفيذه خلال مدة قصيرة، وخلال هذه الفترة يجب التصدي له وخلق كافة المقدمات التي تؤدي إلى فشله، يجب الدعوة إلى نقاش عام لكل القوى السياسية والمكونات وشرح أهداف هذا المشروع ومآلاته، ولا شك أن العامل الدولي سيكون مهماً جداً في مواجهة المشروع، وعليه يجب شن حملة دبلوماسية واسعة على النطاق الدولي لبيان مخاطر المشروع والدعوة إلى إفشاله، وقبل كل شيء يجب تعبئة جميع الطاقات البشرية والمادية، ووحدة الصف الكردي ووحدة مكونات شمال وشرق سوريا باعتبارهما ضرورتان ملحتان، ودعم القوات المسلحة والحفاظ على الأمن الداخلي وتوفير مستلزمات الصمود والحد من الهجرة.