ربما تدفع الحرب في أوكرانيا، الولايات المتحدة الأمريكية إلى أكبر عملية إعادة تفكير في سياستها الخارجية منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، مما أدى إلى بث روح جديدة في سياستها وتغيير حساباتها الاستراتيجية مع الحلفاء والخصوم على حد سواء، بالنسبة لجميع القوى القريبة والبعيدة، وذلك بحسب صحيفة “نيويورك تايمز”.
كانت السياسة الخارجية لواشنطن تمر بالفعل بتحول كبير، مع انتهاء الحرب الأمريكية الشرق الأوسط، لذلك سعى “بايدن” إلى إعادة بناء التحالفات الأمريكية الجديدة، وإذا كانت هناك رهانات أمريكية خاسرة في بعض الدول البعيدة، فإنها تبقى رهانات رابحة كما في سوريا تحديداً، لما للروس من نفوذ قوي وراسخ ومتجذر منذ أمد طويل، وتعد القوة العدوة التقليدية للمصالح الأمريكية في سوريا، وربما هذا ما حدا بإدارة جو بايدن إلى استثناء مناطق شمال وشرق سوريا من نتائج عقوبات “قيصر”، والتي باتت جاهزة للإعلان وسط غضب تركي، ورضى كردي في سوريا.
إن التهاء روسيا بحربها على أوكرانيا، قد يقلب طاولة عملية التفاوض المزمعة داخلياً، وربما من أجل ترشيق المنصات المتشتتة للمعارضات والمتفرقة في الخارج، فإن المطلوب من الداخل السوري الارتهان على ما تبقى من استقرار وأمان في سوريا، وذلك بمجرد أن يتنحى نظام دمشق عن غروره السياسي، والعقلية البعثية المتزمتة ويلتفت للداخل الذي يتهاوى رويداً رويداً جراء الوضع الاقتصادي المتدهور، وما أفرزته عقوبات “سيزر”، نظراً لسياسات نظام دمشق الأحادية، وعدم النظر إلى المبادرات الداخلية على أنها مبادرات وطنية بامتياز، وبل ويتعدى ذلك بالاتهام المباشر للأطراف الداخلية بالاستناد إلى الخارج، ذلك الخارج الذي ارتهن إليه الأسد ومعارضته العربية قبل غيرهما.
بطبيعة الحال فإن أي حرب في العالم تنتهي أما بالحسم أو التفاوض أو بالحسم والتفاوض بوقت واحد، وحتى هذه اللحظة لم تحسم الأمور في سوريا، عبر معارك طاحنة على مدى أكثر من إحدى عشر سنة متتالية دون هدنة أو دون توقف، بل وما عقد الأزمة أكثر القصف المتكرر من قبل تركيا على المناطق السورية سواء عربية أو كردية دون تفريق، في ظل صمت دمشق المطبق.
ويبقى خيار التفاوض هو الحل الوحيد في هذه المرحلة لإنهاء هذه الأزمة المستعصية ولو بشكل جزئي، لأن إيجاد حل شامل ومتكامل يتطلب رضى المجتمع الدولي برمته، لكن في الحالة السورية وبعد بدء الحرب الروسية – الأوكرانية، فقد يكون لأمريكا الكلمة الفصل والكلمة الأولى والأخيرة في إطلاق مشروع الحل، ولو على حساب الأطراف المتنازعة التي باتت تفقد أوراقها خارجياً وداخلياً بعد حرب مدمرة ووضع مأساوي للشعوب السورية.
على الجانب الآخر، لم تكن الدعاية الروسية في سوريا، والبروباغندا الروسية المكثفة ضد الوجود الأمريكي في سوريا وخاصة تنسيقها مع قوات سوريا الديمقراطية إلا جزءاً من آلة الدعاية الروسية ضد وجود أية قوى أخرى غيرها، فيما كانت تسميها الصحف الروسية بـ “زمن الحرب في سوريا” وهذا ما ركزت عليه صحيفة “التلغراف” بأن القرصنة الروسية في سوريا كانت قائمة على قدم وساق ومنها تتمدد إلى دول أخرى لم تسمها، فكانت كل التقارير يتم تشويهها عن الحرب الأهلية الطائفية السورية ويتم نشر معلومات مضللة عنها وقد تكون ضارة، بحسب وصف الصحيفة.
وجود الفريق الاستخباراتي الروسي في سوريا، لن ينهي عمله في سوريا، فسوريا بالنسبة لروسيا حليف استراتيجي وحاضنة قوية بحراً لرفد الاقتصاد الروسي، خاصة وأن الاتفاقات التجارية والاقتصادية الروسية – السورية كانت الأكثر نشاطاً على مدى أكثر من خمسة عقود.
بكل تأكيد لن تنهي الحرب الروسية – الأوكرانية الوصاية الروسية في سوريا، ربما على العكس، قد يمهد الطريق، أما انحسار نفوذها في بعض المناطق، ولكن الوجود الروسي هو خيار استراتيجي بالنسبة لروسيا، حتى ولو خاضت الحرب مع كل الغرب وأمريكا معاً، ويأتي ذلك بالتوازي مع الماكينة الإعلامية التركية المضللة أيضاً، عبر تشغيل وسائل إعلامها المختلفة بتشويه صورة قوات سوريا الديمقراطية بأنها أرسلت عدداً من مقاتليها إلى الحرب في أوكرانيا ضد روسيا وهذا ما نفته قوات سوريا الديمقراطية رسمياً، واصفة تلك الأخبار بالعارية عن الصحة وتأتي في سياق المحاولات اليائسة لجهات تابعة للاحتلال التركي للإساءة إلى قواتهم.
واقع الحال أن القمع المتشعب الذي فرضته تركيا وأحياناً روسيا على مشروع الإدارة الذاتية وربما تضليل نظام دمشق أحياناً بغية عدم الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، كان له دوره السلبي في تعقيد الأزمة وباتت هذه الأزمة تتمدد إلى دول أخرى، وباتت أطراف النزاع أو الصراع تتجه أعينها نحو جغرافيات أخرى، قد تعقد المسألة السورية أكثر، وربما إيجاباً أيضاً إلى نوع من التهدأة في المرحلة المقبلة.
فتح الله حسيني