حول التحديات وتطورات الأوضاع في روجآفاي كردستان وشمال وشرق سوريا
-1-
التحديات التي تواجهها الإدارة الذاتية الديمقراطية عديدة ومتنوعة، تحديات أمنية وعسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، ومن الضروري مواجهة جميع هذه التحديات لأن الواحدة منها ترتبط بالأخرى تتأثر بها وتؤثر فيها، وتستدعي جهوداً كبيرة وتسخير كل الإمكانات المتاحة لحلها بنجاح.
لا شك أن أهم هذه التحديات هو العدوان التركي وتهديداته المستمرة، واحتلاله لمناطق عفرين وسريكانيه وكري سبي، ومحاولاته المستمرة لاحتلال مناطق أخرى، إضافة إلى قطع مياه نهر الفرات وعملياته اليومية الأخرى عبر المسيرات والمدفعية ضد مناطق الإدارة الذاتية، وأعمال الاغتيال بهدف ضرب الأمن والاستقرار وتهجير السكان، وفي الآونة الأخيرة وبعد أن بدأت تركيا أردوغان إطلاق تهديداتها الجديدة ضد الإدارة الذاتية فقد ترافق ذلك بالضغط على الولايات المتحدة وروسيا من أجل السماح لها بشن عدوان على مناطق شمال وشرق سوريا وللحصول على موافقتهما وجعل عدوانها أمراً واقعاً بدأت بشن هجمات واسعة بالطائرات والمسيرات والمدفعية الثقيلة على المنشآت الاقتصادية والبنية التحتية من كهرباء وبترول وغاز وبعض مواقع قوات سوريا الديمقراطية، وقامت بحشد قواتها، ومع الأسف فقد وفرت لها القوات الروسية المجال الجوي وكان ذلك بالضد من الاتفاقيات المبرمة سواء بين روسيا وتركيا وقسد أو بين أمريكا وتركيا وقسد.
تحاول تركيا أردوغان في المرحلة الجديدة من تهديداتها استثمار تداعيات الحرب في أوكرانيا كضغط على الطرفين، لجعل هذا الهجوم التركي أمراً واقعاً مستغلة في ذلك موقعها الجيواستراتيجي وعضويتها في حلف الناتو بالإضافة إلى قوتها العسكرية، وكذلك حاجة روسيا إلى تركيا.
يمكن القول إن حاجة روسيا إلى تركيا حاجة ماسة بسبب الحرب في أوكرانيا وتداعياتها، وهي مستعدة لقبول الكثير من الطلبات التركية وتقديم بعض التنازلات لها لأن تركيا تستطيع وضع الكثير من العقبات أمام المواصلات الروسية براً وبحراً وجواً، كما أنها تستطيع الضغط على الاقتصاد الروسي وإضعافه الذي يعاني من الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية إضافة إلى أنها – أي تركيا – تستطيع أكثر من غيرها إثارة العديد من المشاكل الداخلية في روسيا مثل تحريض ومساندة الانفصاليين المسلمين في روسيا، في الشيشان وداغستان والقرم وعموم مناطق القوقاز، وهو مطلب رئيسي لحلف الناتو الذي يريد تفكيك الاتحاد الروسي، لهذه الأسباب ولرغبة روسيا في إبعاد تركيا عن حلف الناتو ولمساعدة حليفها النظام السوري فإنها مستعدة لتقديم تنازلات لتركيا في شمال وشرق سوريا، وبالفعل فقد فتحت روسيا المجال الجوي أمام الطيران التركي الذي قام بقصف العديد من البنى التحتية والمنشآت الاقتصادية في مناطق الإدارة الذاتية، وأما الجانب الأمريكي فهو أيضاً يعمل من أجل أن لا تبتعد تركيا عن حلف الناتو وتلتحق بروسيا وحلفائها بشكل نهائي، ولهذا فهو يتعامل بمرونة مع تركيا في هذه المرحلة، وبالفعل فقد استعملت الولايات المتحدة وحلفاؤها في البداية عبارات مثل نشعر بقلق إزاء الهجوم التركي أو أن هذا الهجوم سيكون كارثياً على سكان المنطقة…الخ وتطور الموقف الأمريكي والغربي عموماً مع الوقت إلى أن وصل إلى مرحلة إبلاغ تركيا بعدم موافقتها على هذا الهجوم بشكل حازم، وصدرت تصريحات قوية منها برفض الهجوم من أعلى مستويات القرار الأمريكي، وأعلنت روسيا من جانبها بعدم الموافقة على الهجوم، وبذلك توقف التهديد التركي، وإن كانت لازالت تقصف بعض المناطق بعد الفينة والأخرى.
-2-
إذا كان التحدي العسكري – الأمني هو التحدي الأكبر والأهم في هذه المرحلة وفي الأيام القادمة أيضاً، فإن هناك تحديات كثيرة راهنة ومستقبلية، وهي تحديات كبيرة تلقي بظلالها على مستقبل الإدارة الذاتية الديمقراطية، وهي تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية، ويجب التصدي لها بكل قوة وحزم، وفي المقابل فإن لدى الإدارة الذاتية إمكانيات وأوراق كثيرة تعزز دورها، ففي حوزة الإدارة الذاتية ورقة داعش، ليس فقط آلاف الدواعش الموجودون في سجون الإدارة الذاتية، وإنما أيضاً لأن قواتها، قوات سوريا الديمقراطية، هي القوة الرئيسية التي هزمت داعش وقضت على دولة خلافتها، بل أنها هي القوة الرئيسية المؤهلة للقضاء على داعش وغيرها من القوى الإرهابية في المنطقة، وتمتلك الإدارة الذاتية الموقع الجيوسياسي الممتاز في منطقة تقع في قلب الصراع الإقليمي والدولي، إضافة إلى امتلاكها لموارد استراتيجية كثيرة كالمياه والنفط والغاز والحبوب بأنواعها إضافة إلى جملة من الموارد الزراعية، وتشكل جميعها عوامل للاهتمام الدولي والإقليمي بهذه المنطقة، كما تشكل سبباً كبيراً من أسباب القوة والازدهار والتنمية على جميع المسارات، يضاف إلى كل ذلك قوات سوريا الديمقراطية المدربة بشكل جيد، وأيضاً وجود قوات التحالف الدولي التي توفر الحماية للإدارة الذاتية، وإذا كان الأمر كذلك فلا تنقص سوى الإرادة والعمل لاستثمار هذه الإمكانيات. وفي المستوى السياسي فإننا نثمن زيارة السيد بافل جلال الطالباني الأخيرة ولقائه مع قيادات قسد وبعض المسؤولين في الإدارة الذاتية، ونأمل أن تفتح هذه الزيارة آفاقاً جيدة في التعاون مع القوى الكردستانية ووحدتها في وجه التهديدات والمخاطر التي تواجه الإدارة الذاتية والشعب الكردي عموماً، وتستدعي المرحلة عملاً دبلوماسياً نشيطاً مع العديد من القوى الدولية لأن العامل الدولي يحتل مكانة هامة سواء لجهة حماية المكتسبات أو لجهة التعاون متعدد الأشكال بما في ذلك إقامة التحالفات الموقتة والاستراتيجية، ولأن الإدارة الذاتية جزء من سوريا فإن عليها واجب مساعدة أطراف المعارضة الوطنية الديمقراطية ووحدتها بسبب ضعفها – المعارضة الوطنية – في المرحلة الراهنة بسبب تغول الأطراف الموالية لتركيا على العديد من أطراف المعارضة الوطنية الديمقراطية سواء كانت في الداخل أو الخارج.
إذا كانت مناطق الإدارة الذاتية غنية بمواردها وثرواتها فإن ذلك يستدعي سياسة اقتصادية واضحة أساسها الاكتفاء الذاتي وتحسين المستوى المعيشي للشعب وإقامة المشاريع الإنتاجية لأن ذلك يساعد على الاستقرار الداخلي ويخفف من الهجرة ويزيد في التفاف الشعب حول الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، وبلا شك فإن تعميق التجربة الديمقراطية للإدارة الذاتية يقع في مقدمة الأوليات لأنه من المعلوم أن هناك جهات عديدة تقوم بالتآمر على هذه التجربة وإفشالها، فالنظام وحلفاؤه يقومون بتجنيد بعض المجموعات وتسليحها لاستخدامها في محاربة الإدارة الذاتية، ويدرك الجميع أن مخابرات العديد من الدول وعلى رأسها المخابرات التركية والإيرانية ومخابرات النظام تقوم بكل ما من شأنه زعزعة الاستقرار الداخلي والحصول على المعلومات والبيانات الداخلية لاستخدامها عند الحاجة ما يستدعي أن تكون الأعين مفتوحة على الدوام لمراقبة الأنشطة التخريبية وعمليات الاغتيال، ومواجهة هذه المخاطر تستدعي قبل كل شيء تعميق التجربة الديمقراطية وإفساح المجال للمشاركة الشعبية، ومشاركة القوى والأحزاب السياسية في مراكز القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
-3-
والآن فإنه وبعد استبعاد الهجوم التركي على مناطق الإدارة الذاتية ولو بشكل مؤقت، فإنه يجب استغلال هذه الفرصة لتعزيز الوضع الداخلي (البناء الداخلي) ولإنجاز بعض المهام الاستراتيجية والضرورية لمعيشة الشعب والبناء الديمقراطي وحل الإشكالات والصعوبات التي تواجهها الإدارة الذاتية، يجب على الإدارة الذاتية أن تدرك جيداً بأن جملة هذه المهام الاستراتيجية بجميع تحدياتها ليست أقل أهمية من التحديات الأمنية والتهديدات التركية، بل أن التحدي الداخلي يفوق في أهميته التحدي الخارجي.
إن أهمية الحلول التي توضع لتحسين الوضع المعيشي للشعب وتعزيز الوضع الداخلي يسبق العامل الخارجي لأنه يؤدي إلى تعزيز الجبهة الداخلية والتفاف الشعب حول الإدارة الذاتية وحول قوات سوريا الديمقراطية، وهو أساس الصمود المؤدي إلى إفشال المؤامرات والمخاطر الخارجية، ولهذا فإنه من الضروري والملحّ الاهتمام بالزراعة وإنجاح الموسم الزراعي الحالي، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى استقرار الوضع الاقتصادي وبخاصة في الأرياف، وعودة الفلاحين إلى الريف وإزالة الضغط السكاني عن المدن بكل ما تحمله من مشاكل اجتماعية واقتصادية والقطاعات الإنتاجية، ومن الضروري إيلاء اهتمام أكبر بالصحة والتعليم والقضاء حيث هناك شكاوى كثيرة من المواطنين بشأنها، ومن الضروري مكافحة الفساد بجميع أشكاله، فقد بدأ يتشكل وضع خطير حيث تتجمع الثروات في أيدي قلة من الناس على حساب كدح الشعب وتضحيات عوائل الشهداء، إضافة إلى أنه كالمرض الخبيث يخرب كل جهود الإدارة الذاتية.
إن تعميق التجربة الديمقراطية للإدارة الذاتية يجب أن تكون مهمة دائمة ومستمرة، حيث هناك جهات عديدة في سوريا تدرس هذه التجربة وتتطلع إلى نجاحها كنموذج سياسي واقتصادي واجتماعي لسوريا المستقبل، ولهذا يجب تطويرها باستمرار، وتنقيتها من الشوائب والنواقص من النواحي السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والتأكيد على طابعها الديمقراطي لجهة مشاركة الشعب والقوى السياسية فيها، وتحقيق وحدة الشعب والتفافه حولها، كما يجب الاهتمام بوحدة الصف الكردي ووحدة مكونات شمال وشرق سوريا باعتبارهما الحلقة المركزية في نضال الإدارة الذاتية والقوى السياسية وقوى المجتمع المدني، بل أن كل ذلك يشكل الأرضية الخصبة لإقناع كل الوطنيين والتقدميين والديمقراطيين في البلاد سواء كانوا ضمن المعارضة الوطنية أو خارجها بمشروع الإدارة الذاتية كتجربة ديمقراطية تؤدي إلى سوريا ديمقراطية تعددية لا مركزية.