حول الحرب في قطاع غزة
ساد لفترة طويلة شعار: (منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني)، وكانت المنظمة تضم في صفوفها جميع القوى السياسية والعسكرية الفلسطينية التي كانت تناضل من أجل انتزاع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وكان جميع الفلسطينيين يلتفون حول هذا الشعار، وقد أدى ذلك إلى إعطاء زخم كبير لنضال الشعب الفلسطيني على الأصعدة الدولية والإقليمية والمحلية، وفي المقابل رأت إسرائيل والدول الداعمة لها في وجود منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني خطراً عليها، فأرادت التخلص من وحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني، ولذلك عملت مع الولايات المتحدة وبقية حلفائها في الغرب، ومع بعض الدول العربية ومنها الأردن للتخلص من هذه الوحدانية.
كانت قيادات حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تقيم في الأردن وفي الداخل الفلسطيني وفي بعض الدول العربية الأخرى، وكان معروفاً عنها أنها جماعة للإخوان المسلمين، وبالفعل استطاعت تلك الجهات تقويم حركة حماس وفرضها على الساحة الفلسطينية، بحيث أصبحت هناك ثنائية في التمثيل الفلسطيني، ولم يعد الكفاح الفلسطيني موحداً، وقبلت منظمة التحرير هذا الواقع على مضض، وحاولت التنسيق مع حماس ما أمكن، ولكن الرياح كانت تجري في واد آخر، إذ عملت حماس على إضعاف المنظمة وتصدر حركة المقاومة الفلسطينية، وكانت هناك صراعات وصدامات دموية بين الطرفين، وكانت هناك انتخابات أيضاً، وأخيراً تمكنت حماس من الاستحواذ على الحكم في قطاع غزة، وبقيت منظمة التحرير تحكم الضفة الغربية.
تبنت تركيا أردوغان حركة حماس باعتبار أن أردوغان وحزبه الإسلامي جزء من جماعة الإخوان المسلمين العالمية، وتبنت إيران أيضاً حركة حماس بالرغم من الخلاف الأيديولوجي بينهما، ودعمتها بكل السبل بالسلاح والمال والدعم السياسي، وفي ظل الصراع الدائر في المنطقة استغلت إيران بالدرجة الأولى وتركيا بالدرجة الثانية حركة حماس لتحقيق أهدافهما، وأصبحت حركة حماس إحدى أدوات إيران مع حزب الله في لبنان، وتحول الصراع بين إسرائيل من جهة وإيران وأدواتها في المنطقة من جهة أخرى إلى صراع وجودي، وأكثر من ذلك فقد أصبحت حركة حماس تقوم بتنفيذ سياسات إيران وتركيا في المنطقة بما في ذلك معاداة الشعب الكردي وحركته التحررية، فقامت مع قطر وغيرها ببناء مستوطنات في عفرين بهدف إجراء التغيير الديموغرافي فيها بتهجير سكانها الأصليين من الكرد وإحلال أتباعها من العرب وغيرهم فيها، وكان مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين يقول عن إقليم كردستان العراق بأنه إسرائيل ثانية، وعلى خطاه بارك خالد مشعل لأردوغان احتلاله لعفرين.
في الـ /7/ من شهر تشرين الأول الحالي، وعلى نحو مفاجئ لم يتوقعه أحد حدث الانفجار الكبير، إذ قصفت حماس إسرائيل بآلاف الصواريخ، واندفع مقاتلوها إلى البلدات والمستوطنات الإسرائيلية، وقتلوا وأسروا أعداداً كبيرة من الإسرائيليين، لقد كانت عملية محكمة وجريئة تم التخطيط لها بدقة متناهية، والأكثر من ذلك أن حماس استطاعت الحفاظ على سرية العملية لتحقيق المباغتة، وأبدى مقاتلوها كثيراً من الشجاعة واستطاعوا هز الكيان الإسرائيلي، وبعد ذلك بدأت إسرائيل بعد أن استوعبت ما جرى بتعبئة قواتها والرد على هذا الهجوم.
كل الدلائل تؤكد أن حماس لم تكن وحيدة في هذه العملية سواء في التخطيط أو التنفيذ أو الأهداف، وأن إيران كانت شريكة أساسية في كل ذلك وبضمن ذلك تدخلها في المعركة مع أذرعها في المنطقة، ولأن العملية كانت كبيرة وخطيرة ومثيرة للتدخل من قبل إيران وحزب الله وبقية أذرعها، سارعت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية إلى الإعلان عن وقوفها إلى جانب إسرائيل، وحولت الولايات المتحدة ودول أخرى بوارجها وطائراتها لمساندة إسرائيل، وهو الأمر الذي فرمل تدخل إيران وغيرها إلى جانب حماس. لقد حسم التدخل الغربي المباشر – لمواجهة أي تدخل آخر سواء من إيران أو أذرعها – مصير هذه الحرب التي تضمن انتصار إسرائيل وخسارة حماس، أو القضاء عليها في قطاع غزة واجتياحه، وما يترتب على ذلك من مآس إنسانية للمدنيين من سكان غزة الذين يتجاوز عددهم /2.3/ مليون نسمة، وأصبحت إيران وتركيا اللتان كانتا تقفان وراء حماس وتمدانها بالأسلحة والأموال والخبرات تكتفيان بالدعم الكلامي وهما تتحسبان لردود الأفعال الدولية الجاهزة فعلاً لردع إيران وحزب الله وباقي أذرعها، وقد لا يقف الأمر عند حدود الفلسطينيين والإسرائيليين، وإنما قد تمتد إلى داخل إيران ذاتها، ولحفظ ماء وجهها أجرى وزير الخارجية زيارات ولقاءات مكوكية في المنطقة، وأطلق حزب الله اللبناني عدة صواريخ إلى بعض الأهداف الإسرائيلية القريبة من حدود لبنان، وقامت جماعات الحشد الشعبي العراقية بشن هجمات بالطائرات المسيرة إلى قاعدتي عين الأسد في الأنبار وحرير في إقليم كردستان العراق.
في مثل هذا الوضع المتفجر فإن جميع الدول العربية عاجزة عن القيام بأي شيء عملي على الأرض سوى المطالبة بإيقاف الحرب وحماية المدنيين، وتقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة، نعم، إنها في ظل الوضع الحالي الدولي والإقليمي لا تستطيع فعل أكثر من ذلك وجميعها محرجة، وفي نفس الوقت تبقى منظمة التحرير الفلسطينية مغلولة الأيدي، ولم يكن بإمكانها سوى التنديد بقتل المدنيين وقصف البنية التحتية لغزة وضرورة حماية المدنيين وإغاثتهم بالمساعدات الإنسانية، وكانت مقاطعة محمود عباس الاجتماع مع الرئيس الأمريكي جو بايدن موقفاً سياسياً واضحاً.
بعد مضي أكثر من /15/ يوماً على بدء هذه الحرب لا تبدو في الأفق أي توقف لها، وقد تمتد لفترة زمنية طويلة إلا أن آثارها ستكون كبيرة، وستلقي بظلالها على الوضع في كل المنطقة والعالم، ويمكن القول إن هذه الحرب قد عطلت إلى إشعار آخر العملية السياسية التي كانت تجري بين السعودية وإسرائيل برعاية أمريكية بهدف تطبيع العلاقات بينهما بشروط تتضمن إيجاد حل للمسألة الفلسطينية لم تعرف تفاصيلها إلى الآن.
تستعد إسرائيل الآن لاجتياح بري لقطاع غزة وهو الهدف المعلن للقضاء على حركة حماس، ولكن قطاع غزة منطقة ضيقة لا تتجاوز مساحتها /365/ كم2 وهي مزدحمة بالسكان، واجتياحها يعني وقوع كارثة بشرية كبرى، خاصة أن مقاتلي حركة حماس ينتشرون بين السكان المدنيين وفي خنادق تحت الأرض ما يعني أن مهمة إسرائيل لن تكون سهلة، وقد تدفع كلفة بشرية عالية، وكذلك المدنيون الفلسطينيون خاصة وأن هذه الحرب قد كلفت إلى الآن نحو /10/ آلاف قتيل وأكثر من /20/ ألف جريح.
وإذا كانت حماس لم تطرح أي أفق سياسي لهذه الحرب، فإنه ومع ذلك ستكون لها تداعيات محلية وإقليمية ودولية كثيرة، فقد تستفيد من هذه الحرب كل من روسيا والصين بحيث تصبح هذه الواقعة هي الأولى عالمياً بينما كانت أوكرانيا هي الحدث العالمي الأكبر، ولأن الصين وروسيا ستحاولان اجتذاب الرأي العام العربي والإسلامي، ومن المرجح بعد انتهاء هذه الحرب أن يطرح حل ما للقضية الفلسطينية، ومن المتوقع أيضاً أن تمتد تداعيات هذه الحرب إلى لبنان وسوريا والعراق، وكذلك إلى الصراع مع إيران بما في ذلك مشروعها النووي، وبالتأكيد فإن الوضع الداخلي في إسرائيل سيتأثر كثيراً بهذه الحرب، وأن الإسرائيليين سيحاسبون حكومة اليمين المتطرف الحاكمة بزعامة نتنياهو، وقد تحدث تطورات سياسية داخل إسرائيل.
نؤكد بأن وضع حد للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يجب أن يمر عبر الاعتراف بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على أراضي عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وفق حل الدولتين الذي يحظى بقبول عربي ودولي.
بقلم: صالح عباس