زلزال تركيا وسوريا وتداعياته الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية
-1-
استفاق العالم فجر يوم 6 – 2 – 2023م على كارثة إنسانية مروعة نتيجة الزلزال المدمر الذي أصاب شمال سوريا وتحديداً محافظات حلب واللاذقية وإدلب وحمص وحماة، كما أصاب /10/ ولايات جنوب تركيا، وقد بلغت شدة الهزة /7,8/ درجة على مقياس ريختر وتفوق قوتها قوة /500/ قنبلة ذرية، وكان مركز الهزة في مرعش وأنطاكيا، وأسفرت الهزة عن سقوط عشرات الآلاف من القتلى وعشرات آلاف المصابين وعن تدمير آلاف الأبنية والطرق والجسور وغيرها من المنشآت، وتشريد أكثر من /20/ مليون شخص.
كان حجم الكارثة كبيراً جداً إلى حد أن وسائل الإعلام وإدارات الكوارث في العالم قدرت بأن العالم لم يشهد دماراً بهذا الشكل منذ قرن من الزمن، وبالتالي كان حجم الكارثة أكبر بكثير من طاقات البلدين، ويحتاج إلى مساعدة دولية واسعة سواء لجهة فرق الإنقاذ أو المعونات الإغاثية من أغذية وخيم ولباس أو المعونات الطبية، لقد تأخرت الاستجابة السريعة والفورية لمواجهة الحالة في كل من تركيا وسوريا سواء كان ذلك بسبب هول الكارثة، أو بسبب البيروقراطية وعدم استعداد البلدين لمواجهة مثل هذه الحالات، وأدى ذلك إلى ضرر شديد أصاب المواطنين سواء من هم تحت الأنقاض أو المصابين.
سارع العالم إلى تقديم العون اللازم، وهنا لا بد من القول أن معظم الإعانات الدولية والعربية تحولت منذ البداية إلى تركيا وأهملت سوريا بسبب العلاقات الناجمة عن الأزمة السورية والحرب الدائرة فيها منذ /12/ عاماً، ولكن فيما بعد استقبلت سوريا إعانات إغاثية وطبية بحجم كبير من بعض الدول العربية، وأعلنت الولايات المتحدة عدم شمول المساعدات المقدمة إلى سوريا لعقوباتها، ولغاية كتابة هذه الافتتاحية بلغ عدد الضحايا في تركيا إلى أكثر من /42300/ قتيل وفي سوريا إلى أكثر من /6000/ قتيل، وبلغ عدد الأبنية المدمرة في كلا البلدين عدة آلاف من الأبنية، ومثلها من الأبنية المتضررة التي يجب هدمها وإعادة بنائها من جديد، وللحقيقة فإن العديد من الأبنية لم تصل إليها فرق الإنقاذ وبخاصة في المناطق السورية التي تحتلها تركيا وبالأخص في مدينة جنديرس وباقي ريف مدينة عفرين لكونهم كرداً ما يعني أن عدد الضحايا سيرتفع.
هناك حقيقة ماثلة فيما يتعلق بالمعونات الدولية، وستبقى ماثلة أمام ذهن أي كردي وإلى الأبد، وهي أن مدينة عفرين وريفها بما في ذلك مدينة جنديرس قد تم حرمانها عمداً من أية مساعدات دولية سواء لجهة فرق الإنقاذ، أو لجهة باقي المعونات الإغاثية والطبية، لقد حصل عليها فقط مرتزقة الاحتلال التركي، وتم حجبها عن الكرد سكان عفرين الأصليين، إضافة إلى أن منازل المواطنين الكرد المتضررة والمهدمة قد أصبحت عرضة لسرقة ونهب محتوياتها بشكل منظم من قبل قطعان فصائل المرتزقة التي تحتل عفرين.
لا شك أن علماء الجيولوجيا والإرصاد والجهات العلمية المختصة هم الأقدر على بيان أسباب هذا الزلزال، ولكن هناك إجماع من قبل جميع هذه الجهات على أن العدد الكبير من السدود التي يبلغ عددها نحو /2000/ سداً والتي تخزن وراءها مئات المليارات من الأمتار المكعبة من المياه خلفها، حيث أن سد أتاتورك لوحده يحجز /48/ مليار متر مكعب من المياه هو السبب الرئيسي لهذا الزلزال.
لقد بنت تركيا هذا العدد الكبير من السدود لتستخدمها كسلاح سياسي ضد سوريا والعراق وفي أمور أخرى، تركيا تفتقر إلى البترول فتلجأ إلى سلاح المياه، وبالرغم من أنه هناك معاهدات دولية تنظم حصة كل من تركيا وسوريا والعراق من مياه نهري الفرات ودجلة إلا أن تركيا قد قطعت مياه النهرين، مما يؤثر بشدة على الوضع الاقتصادي في سوريا والعراق سواء لجهة الزراعة أو توليد الكهرباء.
ولا شك أيضاً في أن الوضع في سوريا سواء في مناطق سيطرة النظام، أو في المناطق السورية المحتلة من قبل تركيا ومرتزقتها سيكون أصعب من الوضع في تركيا بسبب الحرب المدمرة التي تجري في سوريا منذ /12/ عاماً، فلا الإعمار ممكن في المدى المنظور، إضافة إلى الصعوبات في إيواء المتضررين وتقديم خدمات الإغاثة والخدمات الطبية في ظل وضع اقتصادي قاس في الأساس.
-2-
بالرغم من هول وآلام الخسائر الكبيرة في الأرواح والجروح الاجتماعية التي لن تندمل لفترة طويلة الناجمة عن هذه الكارثة الإنسانية الكبيرة حيث فقدت عائلات بأكملها، فستكون لهذه الكارثة تداعيات كثيرة أخرى اقتصادية وسياسية سيؤثر على تطور البلدين في المستقبل.
صرح الرئيس التركي أردوغان أمام وسائل الإعلام في اليوم الثاني من الزلزال بأن تركيا سوف تقوم بإعمار ما دمره الزلزال من أبنية وطرق ومرافق أخرى خلال عام واحد، وكان واضحاً أن هذا التصريح قد تم إطلاقه في سياق الحملة الانتخابية التي ستجري في تركيا خلال شهر أيار القادم ليكسب بذلك أصوات الناخبين الذين يبتعدون عن سياسات أردوغان وحزب العدالة والتنمية. إن هذا التصريح مبني فقط على الأوهام، لأنه من المعروف أن الوضع الاقتصادي في تركيا كان منهاراً قبل الزلزال، وأن قيمة الليرة التركية قد تدنت إلى مستويات قياسية أمام العملات الأجنبية، ومن المتوقع أن يزداد انهيار الاقتصاد التركي بكثير بعد هذه الهزة.
يقدر الخبراء حجم الأموال اللازمة لإعادة الإعمار إلى أكثر من /84/ مليار دولار، ناهيكم أن الزلزال لم ينته بعد فلازالت سلسلة الهزات الارتدادية تجري حتى اليوم، لقد حدثت أكثر من /4500/ هزة ارتدادية منذ الهزة الأولى، ولايزال العديد من الخبراء يتوقعون حدوث هزات جديدة مثل الهزة التي يتم توقعها في استانبول. لا يمكن لتركيا تأمين هذه الأموال لأن الغرب لن يساعد أردوغان في تقديم هذه الأموال على الأقل قبل الانتخابات، وفي حال تقديمها ستكون مشروطة بمواقف سياسية كأن تبتعد تركيا عن روسيا وأن تعود إلى حضن الناتو بشكل كامل وتلتزم بقراراته وغيرها من الشروط السياسية الأخرى، وكذلك ستفعل دول الخليج العربي التي قد لا تستطيع تقديم مثل هذه المساعدة في الأصل وبالتالي لن تستطيع تركيا إعادة إعمار ما دمر لمدة تتراوح بين /5 – 10/ سنوات، ومن المرجح أيضاً أن تؤثر هذه الكارثة على نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة في تركيا، فاستناداً إلى معطيات الوضع الداخلي في تركيا سواء لجهة سوء الوضع الاقتصادي وتراجع الحريات الديمقراطية وفشل معظم سياسات أردوغان وتقديم المعارضة وما أضافته مآسي الزلزال الأخير فإن الترجيحات تميل إلى خسارة أردوغان وحزب العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة وإلى تغيير النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني، وفي ظل الأوضاع الجديدة وتداعياتها فمن الممكن أن تتخلى تركيا عن أي تفكير جديد في الهجوم على مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية بهدف احتلال أراض جديدة، وأن تتوقف عملية التطبيع مع النظام السوري والمصالحة بين المعارضة والنظام.
وفي سوريا فقد كان للزلزال أثراً أقسى سواء في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام أو في المناطق الواقعة تحت سيطرة الاحتلال التركي ومرتزقته بسبب حجم الدمار الكبير والعدد الكبير أيضاً من القتلى والمصابين وتدمير عدد كبير من الأبنية لأن سوريا تعيش أوضاعاً استثنائية واقتصاداً ضعيفاً بسبب حالة الحرب القائمة منذ /12/ عاماً؛ في البداية توجهت المساعدات إلى تركيا وأهملت سوريا، غير أنه وفيما بعد تدفقت مساعدات كبيرة على سوريا من الدول العربية وعدد من الدول الأخرى، ورفعت الولايات المتحدة عقوباتها عن المساعدات الإغاثية، وكان لذلك أثره الواضح في التخفيف من حدة الكارثة، وقد حاول النظام الاستفادة من ذلك سياسياً، وفي إثره ظهرت تصريحات ومؤشرات سياسية تدل على انفتاح محتمل من الدول العربية على سوريا، فقد صدرت تصريحات من مصر والسعودية وعدد من الدول الأخرى بأنه لا يجب إبقاء سوريا على وضعها الحالي، وقد شكلت هذه التصريحات فائدة للنظام الذي هو بأشد الحاجة إلى انفتاح الدول العربية عليه، واستعادة كرسيها في الجامعة العربية وتطبيع العلاقات معها، ويبدو أنه قد تكونت رغبة في الدول العربية لاستنساخ التجربة العراقية، إذ تعتبر العديد من الدول العربية أن عودتها إلى سوريا ستشكل مخرجاً وطريقاً لإنقاذها من السيطرة الإيرانية، ومثل هذه الحالة تشكل مخرجاً للنظام من عزلته واستعادة قوته الاقتصادية وعلاقاته الدولية، ومن المرجح أن تستمر هذه السياسة، وأن تساعد إيران بسياستها البراغماتية في تسهيل نجاحها.
-3-
منذ بداية الهزة الأرضية اتخذ حزبنا موقفاً واضحاً من مسألة تقديم المساعدات الإغاثية، وأصدر بياناً بهذا الخصوص انطلاقاً من موقفه القومي الكردي والوطني السوري والإنساني طالب فيه المجتمع الدولي وكافة الدول والمنظمات الإنسانية بضرورة تقديم المساعدات الإغاثية إلى جميع المناطق المنكوبة في سوريا، سواء في مناطق النظام أو في المناطق الواقعة تحت سيطرة الاحتلال التركي ومرتزقته بغض النظر عن الأجندات السياسية والصراعات القائمة، وكان هناك انسجام واضح بين موقف حزبنا وموقف الإدارة الذاتية الديمقراطية بهذا الخصوص.
وبالفعل فقد سارعت الإدارة الذاتية إلى إرسال معونات كبيرة تتضمن المحروقات ومواد إغاثية وطبية، غير أن هذا الموقف الإنساني والوطني من قبل الإدارة الذاتية اصطدم بموقف مرتزقة تركيا التي رفضت استلام هذه المساعدات التي بقيت قافلتها تنتظر أكثر من أسبوعين في معبر أم جلود في منبج ما أدى إلى سحبها فيما بعد، وأما القافلة المرسلة إلى النظام فقد بقيت فترة طويلة واقفة في معبر التايهة دون استلام لأن الإدارة الذاتية طلبت إيصال قسم منها إلى حيي الشيخ مقصود والأشرفية الكرديين والمحاصرين في مدينة حلب، وإيصال قسم آخر منها إلى مناطق الشهباء، بينما كان النظام يصر على استلامها بالكامل والتصرف بها حسب رغبته، وبعد فترة طويلة قام النظام باستقبال هذه المساعدة، بعد أن حول قسماً منها إلى المناطق الكردية وتصرف بالقسم الأكبر.
لقد استخلص الكرد دروساً كبيرة من هذه الكارثة الإنسانية، ومن أهم تلك الدروس أن جميع الأنظمة والدول الغاصبة لكردستان موحدون تجاه معاداة الكرد والتمييز ضدهم، وقد وصل بها الأمر إلى حرمانهم حتى من المساعدات الإنسانية في ظل كارثة إنسانية تقشعر لها الأبدان، فما معنى أن تمنع فرق الإنقاذ انتشال الكرد من تحت الأنقاض، وأن يحرموا من الإغاثة الإنسانية في مثل هكذا ظروف، وحتى المعارضة السورية الموالية لتركيا مارست هذا الموقف، إنها لم تقم حتى بواجبات الدولة المحتلة وفق القانون الدولي.
إن أولى الدروس المستخلصة هي أن يتوحد الكرد، وليس أمامهم سوى الاستمرار في طريق النضال من أجل الحرية، وأن وحدة نضال الشعب الكردي هي أهم خطوة يجب تحقيقها اليوم قبل الغد.