الانتخابات الأمريكية.. نتائج وتداعيات
في الظروف الحالية من التطورات الحاصلة على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، باتت كل القضايا متشابكة، وغير محصورة في بلد أو منطقة بعينها، بل أصبحت كلها عالمية بدرجة كبيرة، وفي كل المجالات والاتجاهات أصبحت مسألة اتخاذ قرار ما لا يرتبط فقط بالداخل وإنما بالخارج أيضاً، وكثيراً تصبح معرفة دور الخارج وتداعياته مهمة لا غنى عنها، وأصبحت مهمة السياسي وصاحب القار أكثر تعقيداً، إذ لا بد من معرفته بالأوضاع السياسية والاقتصادية والتوازنات المختلفة على مستوى العالم ومستوى الإقليم والمستوى المحلي أيضاً.
إن هذا التقييم العام يجب أن لا يفهم منه قطعاً سلب إرادة السياسي أو إرادات الشعوب، وهو لا يعني قطعاً الخضوع الكامل لتلك العمومية (العالمية) بل يجب أن يضاف إلى كل ذلك قوة وإرادات الداخل ومشروعية الأهداف التي يجب تخفيفها والقوة المتوفرة لدعمها والتحالف التي يمكن التوصل إليها، وهنا تحتل مسألة وحدة نضال أي شعب أساساً في تحقيق النصر.
انطلاقاً من مسألة العلاقة بين المحلي (الداخلي) وبين الدولي (الخارجي) كان الاهتمام العالمي الكبير بنتائج الانتخابات الأمريكية، ودراسة احتمالات التوجيهات الأمريكية المقبلة وتداعياتها على مختلف أنحاء العالم باعتبار أن الولايات المتحدة هي المحور الأساسي في السياسة الدولية في الوقت الراهن.
والآن وبعد معرفة نتائج الانتخابات وفوز الرئيس الديمقراطي جو بايدن بمنصب الرئاسة، فإن وسائل الإعلام المختلفة والعديد من الدول والعاملين في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن بدأت تناقش التوجهات الجديدة لدى إدارة جو بايدن، خاصة وأن للرئيس الجديد توجهات سابقة معروفة باعتبار أنه كان نائباً للرئيس باراك أوباما لمدة ثمان سنوات، وباعتباره أيضاً سياسياً مخضرماً شارك طويلاً في السياسة الأمريكية، إضافة إلى تصريحاته العديدة قبيل وأثناء الانتخابات.
على المستوى الداخلي للولايات المتحدة فإنه من المتوقع أن تنصب سياسة الإدارة الديمقراطية الجديدة على توحيد المجتمع الأمريكي، والعمل على وضع الحلول للتوجهات العنصرية التي برزت في ظل الإدارة السابقة، وهذا يعني تحسين الأوضاع القانونية للسود والملونين والآسيويين وغيرهم من المهاجرين التي تعرضت للاضطهاد، وكذلك على تحسين الوضع المعيشي للشعب الأمريكي من حيث تأمين الرعاية الصحية وتأمين فرص العمل التي تدنت كثيراً بسبب جائحة كورونا وكذلك تحقيق ضرائب تصاعدياً على أعمال الأغنياء.
وأما على المستوى الخارجي فإن هناك قضايا شائكة تنتظر الإدارة الجديدة، من أهمها العقوبات المفروضة على إيران والاتفاق النووي الإيراني وبرامج التسلح الإيرانية وكذلك السياسة التوسعية لإيران، وفي هذا المجال فإنه وعلى الرغم من أن الحزب الديمقراطي هو الذي أبرم الاتفاقية ضمن فريق(5 +1)، فإنه لن يكون سهلاً على الإدارة الجديدة إلغاء قرار الإدارة السابقة والعودة إلى الاتفاق النووي وكأن شيئاً لم يكن، وبالنظر إلى حدوث تطورات هامة وكثيرة، فمن ناحية تقترب إيران من إنتاج السلاح النووي، وتطور برنامجاً واسعاً لإنتاج الصواريخ بعيدة المدى تطال كامل أوروبا وقد تطال الولايات المتحدة نفسها، كما تتوسع إيران بشكل كبير في المنطقة من خلال تدخلها وتدخل أذرعها المختلفة في شؤون دول المنطقة، وهي تحتل الآن أربع عواصم عربية وتهدد أمن كامل الشرق الأوسط، وكونت شبكة واسعة من العلاقات على المستوى العالمي مع خصوم الولايات المتحدة، إضافة إلى شبكات المخدرات والتجسس ودعم الإرهاب، وممارسة سياسة داخلية معادية للشعوب الإيرانية، وقد أصبح معروفاً الآن أن سياسة إدارة باراك أوباما بسحب القوات الأمريكية من العراق بالطريقة التي تمت بها قد أهدت العراق إلى إيران على طبق من الفضة، وإزاء ذلك، وفي مثل هذا الظرف فإنه من المتوقع أن تعلن الإدارة الجديدة عن موافقتها على فتح الحوار مع إيران، وهو موقف كانت إدارة ترامب تعلنه أيضاً، ولكن بشروط جديدة، وبهدف لجم التوجهات الإيرانية سواء من ناحية السلاح النووي وكامل برنامجها التسليحي، وبهدف وضع حد لسياستها التوسعية والعدوانية.
إذا أرادت الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة النجاح لسياستها هذه تجاه إيران وتجاه كافة القضايا الدولية فإن من الضروري عليها أن تتسابق على الانفتاح على حلفاء الولايات المتحدة وبخاصة أوروبا، لأن أوروبا شريكة في الاتفاق النووي الإيراني فيما يتعلق بالموقف من إيران، ومن جهة أخرى يجب إصلاح العلاقات التي تضررت أثناء إدارة ترامب. إن هذه السياسة أي عودة أوروبا إلى الولايات المتحدة، وعودة الولايات المتحدة إلى أوروبا ستكون ضرورية جداً في إصلاح الموازين السياسية للولايات المتحدة على الصعيد الدولي، وبالطبع سيكون مرتبطاً بذلك تفعيل دور حلف الناتو، وعودة دفء العلاقات بين ضفتي الأطلسي، وفي الواقع فإن الطرفين أي أمريكا وأوروبا بحاجة ماسة لإعادة تعزيز العلاقات بينهما، ويعتقد الكثيرون أن الإدارة الأمريكية الجديدة متنبهة إلى هذه المسألة بوضوح.
إذا كان الموقف من إيران سيكون أحد المهام الرئيسية للإدارة الأمريكية الجديدة، فإن الموقف من تركيا لن يكون أقل أهمية لهذه الإدارة، خاصة وأن كلاً من إيران وتركيا تنتهجان نفس السياسة، وتقودان مشروعين متشابهين، وإذا كانت تركيا قد لقيت دعماً من الإدارة السابقة بالرغم من بعض الخلافات، فإنه من المتوقع أن الإدارة الجديدة ستخير تركيا بالموقف إما مع روسيا أو مع أمريكا وحلف الناتو، وقد تكون صواريخ S400 مدخلاً إلى ذلك، أمريكا لن تتخلى عن تركيا كدولة، ولكنها لن تكون متوافقة مع تركيا أردوغان، أي مع النظام الأردوغاني وسياساته، ولن تسمح الإدارة الجديدة بتوسع تركيا في منطقتها (الشرق الأوسط) وبخاصة منطقة الخليج لأن كل ذلك سيكون على حساب الولايات المتحدة، ولن تقبل الإدارة الجديدة بتحدي أوروبا والتمدد في شرق المتوسط على حساب الأوروبيين، وهناك إشارات وتصريحات رسمية كان قد أدلى بها الرئيس الجديد في مناسبات مختلفة وصفت أردوغان بالمستبد وعدم قبوله العدوان على الكرد، وقال أيضاً أنه سيطيح بأردوغان ولكن عن طريق الانتخابات وليس عن طريق الانقلابات، ولكل ذلك فإنه من المتوقع أن تعزز الولايات المتحدة قواتها في روج آفا – شمال وشرق سوريا ومنع أي عدوان تركي على هذه المنطقة.
وعلى مستوى دول الخليج فإنه من المتوقع أن تبقى الإدارة الجديدة على علاقات جيدة مع العربية السعودية والإمارات وغيرها ليس فقط كمنطقة مصالح، وإنما أيضاً الوقوف معها لدرء المخاطر الإيرانية والتركية وغيرها والاحتفاظ بها كمنطقة نفوذ أمريكية مهمة تجاه كافة المخاطر الدولية، ومن المتوقع أيضاً أن تساعد الإدارة الجديدة في الإبقاء على إسرائيل كأقوى دولة في المنطقة، كما يتوقع أن تقوم هذه الإدارة بتأمين حوار إسرائيلي فلسطيني، وتشجيع الدول العربية على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وبخصوص الموقف من الإرهاب فإن كل الدلائل تشير إلى استمرار الإدارة الجديدة في محاربة الإرهاب، خاصة وأن الإرهاب يضرب الآن في العديد من الدول الأوروبية، ويعرض المصالح الأمريكية للخطر في العديد من المناطق.
وبخصوص الوضع في باقي أنحاء العالم فإنه من المتوقع أن تمارس الإدارة الجديدة سياسة حازمة تجاه روسيا للتأثير على صعودها كقطب دولي جديد، وأيضاً لمحاصرة سياسة روسيا القائمة على التمدد والتوسع على المستوى العالمي والتأثير أيضاً على اقتصادها الذي بدأ في التنامي، ومن الممكن أيضاً أن تتشدد مع روسيا بخصوص أوكرانيا والقرم بالتعاون مع أوروبا، وتوسيع نشاطات حلف الناتو حول روسيا.
وبخصوص الصين كقوة اقتصادية وعسكرية صاعدة، وكقطب دولي بدأ بطرح نفسه بقوة على الساحة الدولية، فإنه من المتوقع أن توسع الولايات المتحدة قوتها العسكرية في بحر الصين الجنوبي، وأن تستقطب أصدقاءها مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والفلبين، وأن تحسن علاقاتها مع الهند للضغط على أي تمدد صيني في المنطقة، وفي أفريقيا فإن مصلحة الولايات المتحدة تكمن حالياً في التحالف مع فرنسا وبعض الدول الإفريقية للانخراط في محاربة الإرهاب الذي يتوسع في العديد من الدول الإفريقية ويضيق على المصالح الغربية، وأما بخصوص العلاقة مع دول أمريكا اللاتينية فإن كل التوقعات تشير إلى اتباع نفس السياسات التي مارستها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما تجاه أمريكا اللاتينية.
وبطبيعة الحال فإن الأطراف الدولية الأخرى لن تقف مكتوفة الأيدي، وستعمل بكل قوة على ممارسة سياساتها الخاصة بها وعلى حماية مصالحها، وأن ما هو مؤكد أن يسود نظام تعدد الأقطاب في العالم.