اضطراب العلاقات الدولية والقضية الكردية
-1-
يشكل الاضطراب الشديد في العلاقات الدولية سمة العصر الذي يمر به العالم اليوم، حيث تسعى الدول العظمى والكبرى والجهات التي ترتبط بها إلى إعادة تقسيم العالم من جديد، وبسط نفوذها وسيطرتها على الموارد والمواقع الاستراتيجية مع ما يستتبع كل ذلك من انتشار بؤر التوتر في أنحاء عديدة من العالم، ويشكل الشرق الأوسط المسرح النموذجي لجميع أشكال الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، دون الإقلال من أهمية الساحات الأخرى مثل الوضع في مناطق بحر الصين الجنوبي، وتزايد الاهتمام بالقارة الأفريقية وغيرها من المناطق.
بطبيعة الحال هناك أسباب محلية تتعلق بدول الشرق الأوسط وفي مقدمتها القضية الكردية والقضية الفلسطينية، وكذلك النضال من أجل الحرية، ومن أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وكلها قضايا تؤدي إلى انتشار بؤر التوتر وعدم الاستقرار بسبب عدم إيجاد حلول ديمقراطية وواقعية لها، ولذلك لم تعد تلك القضايا محلية فقط بالنظر إلى امتدادها إلى الساحات الإقليمية والدولية، ولذلك أيضاً لم يعد بالإمكان فصلها عما يجري في العالم.
مع بدء الحرب في أوكرانيا وما استتبع ذلك من تصعيد في العلاقات الدولية، أصبح من الواضح أن العالم يتجه نحو تشكيل تحالفات جديدة، عسكرية واقتصادية، ونحو مرحلة جديدة من الصراع يشمل العالم بأسره، وجاءت الحرب في غزة ولبنان لتزيد من نيران هذا الصراع من جهة ولتؤكد بأن الشرق الأوسط هو مركز العاصفة في الصراع الدولي بالنظر إلى أنه يشكل قلب العالم، وأن التغيير يبدأ من الشرق الأوسط.
يبدو أن إيران وأذرعها في لبنان وسوريا والعراق واليمن هي في عين العاصفة، وأن الحرب في غزة ولبنان لن تبقى ضمن حدودهما، بل أنها ستمتد إلى مناطق واسعة، بهدف واضح ومعلن هو قصقصة أذرع إيران، وانكفائها ضمن حدودها الوطنية كدولة طبيعية، وقد لا تقف الأمور عند هذا الحد، بل أن النظام الإيراني بحد ذاته، وبرنامجه النووي قد يكونان من المستهدفين، بل أن جميع الدول التي تقتسم كردستان ستشملها رياح العاصفة، وبذلك ستكون الظروف مهيأة لتعزيز القضية الكردية ونجاحها.
إذا كان الشرق الأوسط في الفترة المنصرمة يقع موضوعياً في إطار النفوذ الغربي وبخاصة دول الخليج للسيطرة على منابع النفط والغاز والموقع الجيوسياسي، فإن ذلك لا يعني أن هناك تسليم دولي باستمرار هذا النفوذ، ولهذا فإن الصراع سيشتد خاصة أن سوريا الآن تقع تحت النفوذ الروسي والإيراني، وأن الصين تعمل بمختلف أشكال المواجهات الاقتصادية والسياسية لتحسين مواقعها، كما تسيطر الصين على توجهات العديد من الدول الأفريقية عبر المساعدات والمشاريع الاقتصادية، كما أنها بنت لنفسها مواقع مهمة في أفريقيا عبر مساعدتها لحركات التحرر الوطني الأفريقية خلال مرحلة الاستعمار الغربي، ولا يخفى على أحد الوجود الروسي في أفريقيا وبخاصة في مناطق النزاعات عبر قوات الفاغنر والتبادلات الاقتصادية، وتزويد بعض دولها بالسلاح، وكذلك التحالف الصيني الروسي الإيراني الكوري الشمالي، يضاف إلى ذلك الصراع المتزايد من أجل أن تقوم أوروبا بحماية نفسها بنفسها كما ظهر في تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كما لا يمكن الاستهانة بالتكتلات الاقتصادية مثل البريكس والدول السبع والدول العشرين وغيرها التي لن تلبث أن ترتدي توجهات سياسية مشتركة.
-2-
في مثل هذه الظروف من الاضطراب الدولي بعد الحرب العالمية الأولى، وبناء على اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 ومعاهدة لوزان عام 1923 جرى التقسيم الثاني لكردستان بين أربع دول هي تركيا، العراق، إيران وسوريا، ومورست ضد الشعب الكردي أقسى أنواع الاضطهاد القومي والاجتماعي وإنكار الوجود، ومارست تلك الدول سياسة الصهر القومي والثقافي التي قابلها الكرد بنضال سياسي أحياناً وعسكري أحياناً أخرى قدم خلاله مئات الآلاف من الشهداء، وأبقى قضيته حية ومستمرة، ولايزال إلى اليوم يمارس مختلف أشكال النضال، وحقق بعض الإنجازات ويواصل مسيرته نحو تحقيق أهدافه في الحرية.
إن الأوضاع التي تمر بها المنطقة والعالم، في ظل هذه العلاقات المتوترة دولياً وإقليمياً ومحلياً، وبخاصة في ظروف الحروب في أوكرانيا ولبنان وغزة ستجلب تغييرات كبيرة وهامة إلى منطقة الشرق الأوسط وبخاصة إلى الدول التي تقتسم كردستان، وأصبحت بوادر تلك التغييرات تلوح الآن في الأفق، وهي بمجملها تشكل أرضية خصبة لتطور نضال الشعب الكردي في عموم أجزاء كردستان إلى الأمام بالنظر إلى التداخل التام بين ما هو محلي وإقليمي ودولي، وبهذا الشكل يمكن القول أيضاً بأن القضية الكردية تتقدم الآن إلى الأمام بخطى ثابتة ولو ببطء.
-3-
كلنا يعلم أن تقسيم كردستان وتجزئة الشعب الكردي وإنكار وجوده القومي جرى بسبب عاملين رئيسيين عقب الحرب العالمية الأولى هما أطماع الدول الكبرى التي قسمت العالم وفقاً لتقاطعات مصالحها من جهة، ومن جهة أخرى لأسباب ذاتية تتعلق بوضع الشعب الكردي وقصور نضاله، واليوم يعيش الشعب الكردي مثل تلك الحالة، مع فارق أنه في هذه المرحلة حقق العديد من الإنجازات والمكاسب مثل الثورة المندلعة في جبال كردستان، والحكم الفيدرالي في جنوب كردستان والإدارة الذاتية الديمقراطية في روجآفاي كردستان، وهذا يعني أن الشعب الكردي في عام 2024 ليس هو الشعب الكردي في عام 1923.
إن الأوطان وقضايا الشعوب وحقوقها هي قضايا هامة وكبيرة لا تقدم لها كهدايا على أطباق من الذهب والفضة، هي قضايا يتم تحقيقها بالنضال الحازم والتضحيات الكبيرة، وباستعداد الشعوب من أجل حمايتها، ولهذا فإنه في الظروف الجديدة المواتية لنضال الشعب الكردي لا يجب أن ننتظر قدومها دون الكفاح بمختلف أشكاله المناسبة. قد يكون الشعب الكردي في بعض مراحل نضاله فوت فرصاً ثمينة، ومعروف أن الفرص ليست كثيرة، وهي لا تأتي حسب الرغبة، وقد تأتي بعد أزمان طويلة، وإزاء الفرصة الحالية تنتصب أمام الشعب الكردي وحركته الوطنية التحررية مهام كثيرة في مقدمتها العمل الجاد من أجل تأمين العامل الذاتي لنضالها بمختلف أشكال الكفاح المسلح والسياسي والثقافي والاجتماعي، والذي يتطلب قبل كل شيء حل الخلافات البينية بشكل ديمقراطي، والتعاون المتبادل، ووضع الاستراتيجية والتكتيك المناسبين، وتحسين العلاقات الكردستانية، ووضع البرامج النضالية المناسبة، والانخراط في نشاط دبلوماسي رشيد والاستفادة القصوى من العامل الدولي المواتي والعامل الإقليمي العربي، وغير ذلك من الممارسات التي تؤدي إلى وحدة نضال الشعب الكردي باعتبارها مصدر قوته الأساسية.